( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، وهو العزيز الغفور ) . .
ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له ، وآثار قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته . . أنه خلق الموت والحياة . والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها . والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة . وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية ، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني ؛ وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء . فليست المسألة مصادفة بلا تدبير . وليست كذلك جزافا بلا غاية . إنما هو الإبتلاء لأظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض ، واستحقاقهم للجزاء على العمل : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) . . واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا متلفتا واعيا للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر . ولا يدعه يغفل أو يلهو . كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح . ومن ثم يجيء التعقيب : ( وهو العزيز الغفور )ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه . فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح . فإذا استيقظ القلب ، وشعر أنه هنا للإبتلاء والاختبار ، وحذر وتوقى ، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح !
إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب ، لا يطارد البشر ، ولا يعنتهم ، ولا يحب أن يعذبهم . إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم ؛ وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه . فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير .
{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة } قال عطاء ، عن ابن عباس : يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة . وقال قتادة : أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا ، جعل الله الدنيا دار حياة وفناء ، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء . قيل : إنما قدم الموت لأنه إلى القهر أقرب : وقيل : قدمه لأنه أقدم ، لأن الأشياء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوهما ، ثم طرأ عليها الحياة . وقال ابن عباس : خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء أنثى ، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها ، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقى على العجل فحيي . { ليبلوكم } فيما بين الحياة إلى الموت ، { أيكم أحسن عملاً } وروي عن ابن عمر مرفوعاً : " أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله " . وقال الفضيل بن عياض { أحسن عملاً } أخلصه وأصوبه ، وقال : العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً ، فالخالص : إذا كان لله ، والصواب : إذا كان على السنة . وقال الحسن : أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها . وقال الفراء : لم توقع البلوى على أي إلا وبينهما إضمار ، كما تقول بلوتكم لأنظر أيكم أطوع . ومثله : { سلهم أيهم بذلك زعيم }( القلم- 40 ) أي : سلهم وانظر أيهم ، فأي : رفع على الابتداء وأحسن خبره ، { وهو العزيز } في انتقامه ممن عصاه ، { الغفور } لمن تاب إليه .
الأولى- قوله تعالى : " الذي خلق الموت والحياة " قيل : المعنى خلقكم للموت والحياة ، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة . وقدم الموت على الحياة ؛ لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : " يهب لمن يشاء إناثا{[15175]} " [ الشورى : 49 ] . وقيل : قدمه لأنه أقدم ؛ لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه . وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ) . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه ، الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لو ثاب ) .
المسألة الثانية- " الموت والحياة " قدم الموت على الحياة ؛ لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم{[15176]} قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال ، وانتقال من دار إلى دار . والحياة عكس ذلك . وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل : أن الموت والحياة جسمان ، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر ، فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي ، ولا تطأ على شيء إلا حيي . وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي{[15177]} . حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس . والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي .
قلت : وفي التنزيل " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم{[15178]} " ، [ السجدة : 11 ] ، " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة{[15179]} " [ الأنفال : 50 ] ثم " توفته رسلنا{[15180]} " [ الأنعام : 61 ] ، ثم قال : " الله يتوفى الأنفس حين موتها{[15181]} " [ الزمر : 42 ] . فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم . وهو سبحانه المميت على الحقيقة ، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط ؛ حسب ما ورد به الخبر الصحيح . وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر . والله أعلم . وعن مقاتل أيضا : خلق الموت ، يعني النطفة والعلقة والمضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا .
قلت : وهذا قول حسن ، يدل عليه قوله تعالى " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " وتقدم الكلام فيه في سورة " الكهف{[15182]} " . وقال السدي في قوله تعالى : " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا ، ومنه أشد خوفا وحذرا . وقال ابن عمر : تلا النبي صلى الله عليه وسلم " تبارك الذي بيده الملك - حتى بلغ - أيكم أحسن عملا " فقال : ( أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) . وقيل : معنى " ليبلوكم " ليعاملكم معاملة المختبر ، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره . وقيل : خلق الله الموت للبعث والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء . فاللام في " ليبلوكم " تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت ، ذكره الزجاج . وقال الفراء والزجاج أيضا : لم تقع البلوى على " أي " لأن فيما بين البلوى و " أي " إضمار فعل ، كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع . ومثله قوله تعالى : " سلهم أيهم بذلك زعيم{[15183]} " [ القلم : 40 ] أي سلهم ثم انظر أيهم . " فأيكم " رفع بالابتداء و " أحسن " خبره . والمعنى : ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا . " وهو العزيز " في انتقامه ممن عصاه . " الغفور " لمن تاب .