في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين ، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة . مع التعجيب من موقفهم المريب :

ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ، ويقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير .

والآية توحي بأن خطة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص ، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم . وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة ، وفي دسائسهم الخفية ، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة ، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين .

كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله . كأن يقولوا - كما كان اليهود يقولون - السام عليكم . وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليكم . بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم ! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم ! وهم يقولون في أنفسهم : لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا . أي في تحيتهم ، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات .

وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بما كانوا يقولونه في أنفسهم ، وبمجالسهم ومؤامراتهم . فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة ؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . . الخ . مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم ! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم .

ثم رد عليهم بقوله تعالى :

( حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ) .

وكشف هذه المؤامرات الخفية ، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها ، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم : ( لولا يعذبنا الله بما نقول ) . . هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض ، وحضوره لكل نجوى ، وشهوده لكل اجتماع . وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح ، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

{ لولا يعذّبُنا الله } : هلا يعذبنا الله بسبب ذلك . { حَسْبُهم جهنم } : كافيهم جهنم يدخلونها .

ألم تر أيها الرسول إلى الذين نُهُوا عن النَّجوى فيما بينهم بما يثير الشكّ في نفوس المؤمنين ثم يعودون إلى ما نُهوا عنه ، وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم ، وبما هو مؤذٍ للمؤمنين وما يضمرون من العداوة للرسول .

{ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } ، كان أناسٌ من اليهود إذا دخلوا على الرسول الكريم يقولون : السامُ عليك يا أبا القاسم ، فيقول لهم الرسول : وعليكم ، ويقولون في أنفسهم : هلا يعذِّبنا الله بما نقول لو كان نبيا حقا ! فرد الله عليهم بقوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .

وسبب التناجي المذكور أنه كان بين المسلمين واليهود معاهدة ، فكانوا إذا مر الرجلُ من المسلمين بجماعة منهم ، يتحدثون سراً ويتناجَون بينهم حتى يظنَّ أنهم يتآمرون على قتله ، فيعدلَ عن المرور بهم ، فنهاهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فلم ينتهوا ، وعادوا إلى ما نهوا عنه ، وكانوا إذا جاؤوا النبيَّ قراءات :

قرأ حمزة وخلف وورش عن يعقوب : ويتنجون بفتح الياء وسكون النون بلا ألف ، والباقون : ويتناجون بالألف . حَيَّوه بالدعاء عليه في صورة التحية كما تقدم ، فنزلت هذه الآية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} يعني اليهود كان بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده يتناجون بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فقال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما} للذي {نهوا عنه ويتناجون بالإثم} يعني بالمعصية {والعدوان} يعني الظلم {ومعصيت الرسول} يعني حين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فعصوه...

ثم أخبر عنهم، فقال: {وإذا جاءوك حيوك} يعني كعب بن الأشرف، وحيى بن أخطب، وكعب بن أسيد، وأبو ياسر، وغيرهم {حيوك بما لم يحيك به الله} يعني اليهود، قالوا: انطلقوا بنا إلى محمد، فنشتمه علانية كما نشتمه في السر، فقالوا: السام، يعنون بالسام السآمة والفترة، ويقولون: تسأمون يعني تتركون دينكم، فقالت عائشة، رضي الله عنها: عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عائشة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، فإنه ما وضع في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.. فلما خرجت اليهود من عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له، فالله يعلمه، ولو كان نبيا لأعلمه الله ما نقول، فذلك قوله: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} لنبيه وأصحابه يقول الله {حسبهم جهنم} شدة عذابها {يصلونها فبئس المصير} يعني بئس المرجع إلى النار...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى "من اليهود "ثُمّ يَعودُون" فقد نهى الله عزّ وجلّ إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول...

قوله: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} يقول جلّ ثناؤه: ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه من النجوى {وَيَتَناجُونَ بالإثْمِ والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ} يقول جلّ ثناؤه: ويتناجون بما حرّم الله عليهم من الفواحش والعدوان، وذلك خلاف أمر الله ومعصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم...

وقوله: {وَإذا جاءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار، أنهم كانوا يقولون: السام عليك... حدثنا ابن حُمَيد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عائِشَةُ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفُحْشَ»، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: «أَلَسْتِ تَرَيْنَنِي أرُدّ عَلَيْهِمْ ما يَقُولُونَ؟ أقُول: عَلَيْكُمْ» وهذه الآية في ذلك نزلت {وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهمْ لَوْلا يُعَذّبُنا الله بِمَا نَقُول، حَسْبُهُمْ جَهَنّم يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المَصِيرِ}...

وقوله جلّ ثناؤه: {وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذّبُنا اللّهُ بِمَا نَقُولُ} يقول جل ثناؤه: ويقول محيوك بهذه التحية من اليهود: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيعجل عقوبته لنا على ذلك، يقول الله: حسب قائلي ذلك يا محمد جهنم، وكفاهم بها يصلونها يوم القيامة، فبئس المصير جهنم.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِم الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْك؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ [فِي رِوَايَةٍ]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبرُ عَلَى الْأَذَى من اللَّهِ تَعَالَى، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ويتناجون بالإثم والعدوان} يحتمل؛

(أحدهما) أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان، لاسيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد.

(والثاني) أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم...

{حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة، أو بحسب المصلحة، فإذا لم تقتض المشيئة تقديم العذاب، ولم يقتض الصلاح أيضا ذلك، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [صلى الله عليه وسلم] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة. مع التعجيب من موقفهم المريب:

ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله، ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.

والآية توحي بأن خطة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم. وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة، وفي دسائسهم الخفية، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين.

كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي: وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله. كأن يقولوا -كما كان اليهود يقولون- السام عليكم. وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليكم. بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم: لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا. أي في تحيتهم، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات.

وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وبمجالسهم ومؤامراتهم. فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. الخ. مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم.

ثم رد عليهم بقوله تعالى:

(حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير).

وكشف هذه المؤامرات الخفية، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم: (لولا يعذبنا الله بما نقول).. هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع. وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين. فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10]. ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة...وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما. وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا. و « ما نهوا عنه» هو النجوى...

{حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم. والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نهوا عن النجوى} وقوله: {ومعصيت الرسول} دلالة على أنهم منافقون لا يهود...

{لولا يعذبنا الله} فإن {لولا} للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له...

{حسبهم جهنم} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب. وأصل {يصلونها} يصْلَون بها، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن. وقوله: {فبئس المصير} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى :قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } قيل : إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه . وقيل : في المسلمين . قال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، فيقول المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة ، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم ، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت . وقال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا ، فيعرج عن طريقه ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب ، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت .

الثانية : روى أبو سعيد الخدري قال : كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى ) فقلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح - يعني الدجال - فَرَقًا منه{[14773]} . فقال : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه ) قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : ( الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل ) ذكره الماوردي . وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب ( وينتجون ) في وزن يفتعلون وهي قراءة عبدالله وأصحابه . وقرأ الباقون " ومتناجون " في وزن يتفاعلون ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لقوله تعالى : { إذا تناجيتم } [ المجادلة : 9 ] و{ تناجوا } . النحاس : وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد ، نحو تخاصموا واختصموا ، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا{ يتناجون } و " ينتجون " واحد . ومعنى { بالإثم والعدوان } أي الكذب والظلم . { ومعصية الرسول } أي مخالفته . وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد ( ومعصيات الرسول ) بالجمع .

الثالثة : قوله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون : السلام عليك ، يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم ) في رواية ، وفي رواية أخرى ( وعليكم ) . قال ابن العربي : وهي مشكلة . وكانوا يقولون : لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به ، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه ، فكيف من سب نبيه . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم ) ، فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم ، وفضحا لبواطنهم ، معجزة لرسول صلى الله عليه وسلم .

وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال : السام عليكم ، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أتدرون ما قال هذا ) قالوا : الله ورسول أعلم . قال : ( قال كذا ردوه علي ) فردوه ، قال : ( قلت السام عليكم ) قال : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت ) فأنزل الله تعالى : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } ، قلت : خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح .

وثبت عن عائشة أنها قالت : جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السام عليكم وفعل الله بكم وفعل ، فقال عليه السلام : ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ) فقلت : يا رسول الله ألست ترى ما يقولون ؟ فقال : ( ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول : وعليكم ) فنزلت هذه الآية { بما لم يحيك به الله } أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك ، والسام الموت . خرجه البخاري ومسلم بمعناه . وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ) كذا الرواية ( وعليكم ) بالواو تكلم عليها العلماء ؛ لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سأمه ديننا وهو الملال . يقال : سئم يسأم سأمه وسأما . فقال بعضهم : الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر :

فلما أجزنا ساحة الحَيِّ وانْتَحَى ، أي لما أجزنا انتحى فزاد الواو . وقال بعضهم : هي للإستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم . وقال بعضهم : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك ؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . روى الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول : سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقال : ( وعليكم ) فقالت عائشة وغضبت : ألم تسمع ما قالوا ؟ قال : ( بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ) خرجه مسلم . ورواية الواو أحسن معنى ، وإثباتها أصح رواية وأشهر . وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين ، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة ، للأمر بذلك . وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك . وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم : علاك السلام أي ارتفع عنك .

واختار بعض أصحابنا : السِّلام بكسر السين يعني الحجارة . وما قال مالك أولى اتباعا للسنة ، والله أعلم . وروى مسروق عن عائشة قالت : أتى النبي صلى ا لله عليه وسلم ناس من اليهود ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، قال : ( وعليكم ) قالت عائشة : قلت بل عليكم السام والذام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة لا تكوني فاحشة ) فقالت : ما سمعت ما قالوا ! فقال : ( أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت : وعليكم ) . وفي رواية قال : ففطنت بهم عائشة فسبتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش ) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى : { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله } إلى آخر الآية . الذام بتخفيف الميم هو العيب ، وفي المثل ( لا تعدم الحسناء ذاما ) أي عيبا ، ويهمز ولا يهمز ، يقال : ذأمه يذأمه ، مثل ذأب يذأب ، والمفعول مذؤوم مهموزا ، ومنه { مذؤوما مدحورا{[14774]} } [ الأعراف : 18 ] ويقال : ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه .

قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } قالوا : لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله . وقيل : قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام ، والسام الموت ، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا . وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل كتاب ، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب . { حسبهم جهنم } أي كافيهم جهنم عقابا غدا { فبئس المصير } أي المرجع .


[14773]:في ل: "خوفا منه".
[14774]:راجع جـ 10 ص 235.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

ولما كان هذا الدليل أيضاً{[63250]} تتعذر الإحاطة{[63251]} به ، قال دالاًّ عليه بأمر{[63252]} جزئي واقع بعلم المحدث عنه حقيقة ، فإن عاند بعده سقط عنه{[63253]} الكلام إلا بحد الحسام : { ألم تر } أي تعلم علماً هو كالرؤية ، ودل على سفول رتبه المرئي بإبعاده عن أعلى الناس قدراً بحرف الغاية فقال : { إلى الذين } ولما كان العاقل من إذا زجر عن شيء انزجر حتى يتبين له أنه لا ضرر عليه في فعل ما زجر عنه ، عبر{[63254]} بالبناء للمفعول فقال : { نهوا } أي من ناه ما{[63255]} لا ينبغي للمنهي مخالفته حتى يعلم أنه مأمون الغائلة { عن النجوى } أي{[63256]} الإسرار لإحلال أنفسهم بذلك في محل التهمة بما لا يرضى من{[63257]} رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما قال أبو العلاء المعري :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره{[63258]} *** مع الصفاء ويخفيها من الكدر{[63259]} .

ولما كان الناهي هو الله ، فكان هذا للنهي أهلاً لأن يبعد منه غاية البعد ، عبر بأداة التراخي فقال : { ثم يعودون } أي على سبيل الاستمرار لأنه إذا وقعت مرة بادروا إلى التوبة منها أو فلتة وقعت معفواً عنها ، { لما نهوا عنه } أي من غير أن يعدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عدة ، { ويتناجون } أي يقبل جميعهم على المناجاة إقبالاً واحداً ، فيفعل كل منهم ما يفعله الآخر مرة بعد أخرى على سبيل الاستمرار ، وقراءة حمزة{[63260]} { وينتجون } بصيغة الافتعال يدل على التعمد والمعاندة { بالإثم } أي{[63261]} بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل{[63262]} . ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال :{ والعدوان }أي العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة{[63263]} الحدود . ولما كان ذلك شراً في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال : { ومعصيت الرسول } أي الذي جاء إليهم من الملك الأعلى ، وهو كامل الرسالة ، لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان ، فلا نبي بعده ، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام .

ولما أنهى {[63264]}تعظيم الذنب{[63265]} إلى غايته آذن بالغضب بأن لفت الكلام إلى الخطاب فقال : { وإذا جاؤوك } أيها الرسول{[63266]} الأعظم الذي يأتيه الوحي ممن أرسله ولم يغب أصلاً عنه لأنه المحيط علماً وقدرة { حيوك } أي واجهوك بما يعدونه تحية من قولهم : السام{[63267]} عليك ونحوه ، وعم كل لفظ بقوله : { بما لم يحيك به الله } أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فمن تجاوز ما شرعه فقد عرض نفسه لسخطه ، ومما دخل فيه قول بعض الناس لبعض " صباح الخير " ونحوه معرضاً عن السلام . ولما كان المشهور عنهم أنهم{[63268]} يخفون ذلك جهدهم ويعلنون بإملاء الله لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه ، وإن اطلع عليه {[63269]}لم يقدر على أن ينتقم منهم ، عبر عن ذلك بقوله : { ويقولون } أي عند الاستدراج بالإملاء مجددين قولهم مواظبين عليه { في أنفسهم } من غير أن يطلعوا عليه أحداً : { لولا } أي هلا ولم لا { يعذبنا الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء على زعم من باهانا { بما نقول } مجددين مع المواظبة إن كان يكرهه - كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم .

ولما تضمن هذا علمه سبحانه وتعالى بهذه الجزئية من هؤلاء القوم فثبت بذلك علمه سبحانه بجميع ما في الكون ، لأن نسبة الكل إليه على حد سواء ، فإذا ثبت علمه بالبعض ثبت علمه بالكل فثبتت قدرته على الكل{[63270]} فكان على كل شيء شهيداً ، قال{[63271]} مهدداً لهم مشيراً{[63272]} إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقول مثل{[63273]} هذا إلا إن كان قاطعاً بأنه لا يحصل له عذاب ، أو يحصل له منه ما لا يبالي به ثم يرده بقوله : { حسبهم } أي كفايتهم في الانتقام منهم وفي عذابهم ورشقهم بسهام لهيبها ومنكئ شررها وتصويب صواعقها { جهنم } أي الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والتكره والفظاظة . فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية ، فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ، { يصلونها } أي يقاسون عذابها دائماً فإني قد أعددتها لهم . ولما كان التقدير فإنهم يصيرون{[63274]} إليها ولا بد ، سبب عنه قوله : { فبئس المصير * } أي مصيرهم ، وسبب ذلك أن اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون إلى المؤمنين{[63275]} ويتغامزون{[63276]} يوهمونهم أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيظنون أنه بلغهم شيء من إخوانهم الذين خرجوا في السرايا غزاة في سبيل الله من قتل أو هزيمة فيحزنهم ذلك ، فشكوا ذلك{[63277]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي في{[63278]} هذه الحالة فلم ينتهوا ، و{[63279]}روى أحمد{[63280]} والبزار والطبراني بإسناد - قال الهيثمي في المجمع{[63281]} إنه{[63282]} جيد لأن حماداً سمع من عطاء بن السائب في حالة{[63283]} الصحة - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سام عليك . ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول ، فنزلت . وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك : " إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا " وعليك " " .


[63250]:- زيد من ظ.
[63251]:- من ظ، وفي الأصل: لاحاطة.
[63252]:- من ظ، وفي الأصل: بامري.
[63253]:- في ظ: عند.
[63254]:- زيد من ظ.
[63255]:- في الأصل وظ: مما.
[63256]:- في الأصل وظ: عن.
[63257]:-زيد من ظ.
[63258]:- من ظ، وفي الأصل: ضماير.
[63259]:- من ظ، وفي الأصل: الكمد.
[63260]:- راجع نثر المرجان 7/ 246.
[63261]:- زيد من ظ.
[63262]:- زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[63263]:- من ظ، وفي الأصل: محاوز.
[63264]:- من ظ، وفي الأصل: التعظيم.
[63265]:- من ظ، وفي الأصل: التعظيم.
[63266]:- زيد في الأصل: العظيم، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[63267]:- من ظ، وفي الأصل: السلام.
[63268]:- في ظ: كانوا.
[63269]:من ظ، وفي الأصل: لا يقدر.
[63270]:- زيد من ظ.
[63271]:- زيد من ظ.
[63272]:- ومن هنا تستأنف نسخة م.
[63273]:- سقط من ظ.
[63274]:- زيد من م.
[63275]:- من ظ وم، وفي الأصل: ثم أنهم.
[63276]:- زيد في الأصل: حتى، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63277]:- زيد من ظ وم.
[63278]:- في ظ: على.
[63279]:- زيد من ظ وم.
[63280]:- راجع المسند 2/ 170.
[63281]:- راجع 7/122.
[63282]:- سقط من ظ وم.
[63283]:- من ظ وم والمجمع، وفي الأصل: حال.
 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

{ أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 ) } .

ألم تر -يا محمد- إلى اليهود الذين نُهوا عن الحديث سرًّا بما يثير الشك في نفوس المؤمنين ، ثم يرجعون إلى ما نُهوا عنه ، ويتحدثون سرًّا بما هو إثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول ؟ وإذا جاءك -يا محمد- هؤلاء اليهود لأمر من الأمور حيَّوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية ، فقالوا : ( السام عليك ) أي : الموت لك ، ويقولون فيما بينهم : هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد إن كان رسولا حقًا ، تكفيهم جهنم يدخلونها ، ويقاسون حرها ، فبئس المرجع هي .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (8)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير( 8 ) } .

ذكر عن ابن عباس قوله في سبب نزول الآية : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين يتغامزون بأعينهم فيقول المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقراباتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة ، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم للنبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت .

وقيل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا فيعرج عن طريقه ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت{[4481]} .

قوله : { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول } أي يتسارّون بينهم بالظلم والكذب ومخالفة الرسول ، أو يتناجون بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول .

قوله : { وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله } ، روي عن السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم . فقالت عائشة : وعليكم السام : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ياعائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " فقالت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما سمعت أقول وعليكم ؟ " فأنزل الله قوله تعالى : { وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله } {[4482]} ، يعني إذا جاءك هؤلاء الماكرون الخبثاء من أهل الكتاب والمنافقين الذين نهوا عن النجوى ، حيوك بغير التحية المشروعة المعروفة التي يحييك بها الله وهي السلام عليكم ، بل كانوا يحيونه بقولهم له : السام عليك يا محمد ، والسام معناه الموت . { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } يقول هؤلاء الذين يحيون النبي بهذه التحية الخبيثة من اليهود والمنافقين في أنفسهم : هلا عاقبنا الله بما نقول لمحمد فعجل لنا العقاب على ذلك ، أو لو كان محمد نبيا لعذبنا الله جزاء قولنا له : السام عليك . وهم في الحقيقة موقنون في أنفسهم أن الأنبياء ، يستغضبون فلا يجعل الله العذاب لمن يستغضبهم ، إنما يعذبهم الله في الدنيا إن شاء ، وهم في الآخرة حصب جهنم يصلونها مذمومين خزايا ، وهو قوله : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } أي كافيهم جهنم يعذبون فيها يوم القيامة فبئس المرجع والمآب والمأوى .


[4481]:أسباب النزول للنيسابوري ص 275 وتفسير القرطبي جـ 17 ص 291.
[4482]:أسباب النزول للنيسابوري ص 275 وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 323.