وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليصلهم بالله ، ويعقد بينهم وبينه بيعة ماضية لا تنقطع بغيبة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عنهم . فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعا ، فإنما يبايع عن الله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله . يد الله فوق أيديهم ) . . وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم . فالله حاضر البيعة . والله صاحبها . والله آخذها . ويده فوق أيدي المتبايعين . . ومن ? الله ! يا للهول ! ويا للروعة ! ويا للجلال !
وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة - مهما غاب شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فالله حاضر لا يغيب . والله آخذ في هذه البيعة ومعط ، وهو عليها رقيب .
( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) . .
فهو الخاسر في كل جانب . هو الخاسر في الرجاع عن الصفقة الرابحة بينه وبين الله تعالى . وما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله ، والله هو الغني عن العالمين . وهو الخاسر حين ينكث وينقض عهده مع الله فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذي يكرهه ويمقته ، فالله يحب الوفاء ويحب الأوفياء .
( ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . .
هكذا على إطلاقه : أجرا عظيما . . لا يفصله ولا يحدده . فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم .
عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون !
يبايعونك : يوم الحديبية ، إذ بايع الصحابة الرسولَ على الموت في نصرته .
إنما يبايعون الله : لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله .
يدُ الله فوق أيديهم : نصره لهم أقوى من كل شيء .
إن الذين يبايعونك يا محمد على الثبات معك في نصر الإسلام وجهاد أعدائه ، إنما يبايعون الله ، ويدُ الله فوق أيديهم ، فمن نقض عهده منهم بعد ميثاقه ، عاد ضرر نقضِه على نفسه ، ومن وفى بالعهد فسيؤتيه الله أجراً عظيما في الدنيا و الآخرة .
وسبب هذه البيعة أن الرسول الكريم لمّا أشيع قتل عُثمان في مكة قال : لا نبرح حتى نناجزَ القوم . ودعا الناس إلى البيعة . فبايعوه تحت الشجرة ، وكانت بيعة الرضوان . ولما رأت قريش عزم الرسول الكريم وأصحابه على الحرب بدأت تتراجع وأرسلوا بعض الأشخاص يفاوضون النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعود من هذا العام ، ويأتي في العام المقبل لأداء العمرة . ووقع صلح الحديبية كما تذكر كتب التاريخ والسيرة .
ولما وقّع النبي الصلح مع قريش تحلل من إحرامه ونحر . ثم مكث مع أصحابه أياما في الحديبية عادوا بعدها إلى المدينة . وفي السنة التالية قصدوا مكة معتمرين ، ودخلوها وهم يهلّلون ويكبرون قائلين : لا اله إلا الله وحده ، نصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده . وأقاموا بمكة ثلاثة أيام يطوفون ويسعون وينحرون الهَدْي . وقد سميت هذه العمرة عمرة القضاء لأنها تمت قضاءً عن العمرة السابقة التي منعهم فيها المشركون ، ونزل فيها قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ } [ الفتح : 27 ] .
قرأ حفص : بما عاهد عليهُ الله بضم الهاء في عليه . والباقون بكسرها .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح : فسنوتيه بالنون ، والباقون : فسيؤتيه بالياء .
{ 10 } { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي { بيعة الرضوان } التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن لا يفروا عنه ، فهي عقد خاص ، من لوازمه أن لا يفروا ، ولو لم يبق منهم إلا القليل ، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها ، فأخبر تعالى : أن الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم { يُبَايِعُونَ اللَّهَ } ويعقدون العقد معه ، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي : كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة ، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية ، وحملهم على الوفاء بها ، ولهذا قال : { فَمَنْ نَكَثَ } فلم يف بما عاهد الله عليه { فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : لأن وبال ذلك راجع إليه ، وعقوبته واصلة له ، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ } أي : أتى به كاملا موفرا ، { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ "بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ، ولا يولّوهم الأدبار "إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ" يقول: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك...
وفي قوله: "يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ" وجهان من التأويل:
أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم.
والآخر: قوّة الله فوق قوّتهم في نُصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدوّ.
وقوله: "فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: فمن نكث بيعته إياك يا محمد، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك، وخالف ما وعد ربه "فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ" يقول: فإنما ينقض بيعته، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الجنة بوفائه بالبيعة، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه، ولم ينكث إلا عليها، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه، نكث الناكث منهم، أو وفى ببيعته.
وقوله: "وَمَنْ أوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ..." الآية، يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه "فَسَيُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما" يقول: فسيعطيه الله ثوابا عظيما، وذلك أن يُدخله الجنة جزاءً له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن المبايعة المذكورة في هذه الآية، هي البيعة التي كانت بالحُديبيّة؛ بايعوه على ألا يفرّوا إذا لقوا عدوًّا. وجائز أن تكون المبايعة على ألا يفرّوا كما ذكر في آية أخرى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار} [الأحزاب: 15]. والمبايعة هي المعاهدة. ألا ترى أنه قال في الآية: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله} ذكر في أول الآية المبايعة وفي آخرها المعاهدة ليُعلم أن المبايعة والمعاهدة سواء، والله أعلم.
ثم إضافة مبايعتهم رسوله إلى نفسه تحتمل وجهين:
والثاني: ذكر ونسب المبايعة إلى نفسه لعظيم قدره وجليل منزلته عنده، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " فالمراد بالبيعة المذكورة -ههنا- بيعة الحديبية، وهي بيعة الرضوان -في قول قتادة ومجاهد- والمبايعة معاقدة على السمع والطاعة، كالمعاقدة في البيع والشراء بما قد مضي فلا يجوز الرجوع فيه. وقيل: إنها معاقدة على بيع أنفسهم بالجنة للزومهم في الحرب النصرة.
وقوله " يد الله فوق أيديهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما – عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه (صلى الله عليه وآله).
والآخر -قوة الله في نصرة نبيه (صلى الله عليه وآله) فوق نصرتهم. وقيل يد الله في هدايتهم فوق أيديهم بالطاعة.
وقوله " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " والنكث: النقض للعقد الذي يلزم الوفاء به، فبين تعالى أن من نقض هذه المبايعة، فإنما ينكث على نفسه، لأن ما في ذلك من استحقاق العقاب عائد عليه "ومن أوفى" يقال: أوفى بالعقد، ووفى... " بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما " أي إذا أوفى بالبيعة ونصر دينه ونبيه آتاه الله في ما بعد أجرا عظيما وثوابا جزيلا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}... الله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] والمراد: بيعة الرضوان. {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه... وقرئ: «إنما يبايعون لله» أي: لأجل الله ولوجهه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} كقوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايَع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم...
{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: إنما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني عنه، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي: ثوابًا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الذين}. ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به- ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: {يبايعونك} أي- في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة...
{إنما يبايعون الله} أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له...
{يد الله} أي المتردي بالكبرياء، ولما كان منزهاً عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: {فوق أيديهم} أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة و القوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص...
{فمن نكث} أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض {فإنما ينكث} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً {على نفسه} لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو- قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً، ولا يضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن الله ناصره لا محالة...
{ومن أوفى} أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة {بما عهد} وقدم الظرف اهتماماً به فقال: {عليه الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه {فسيؤتيه} أي بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} لا يسع عقولكم شرح وصفه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله. يد الله فوق أيديهم).. وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده، أن يد الله فوق أيديهم. فالله حاضر البيعة. والله صاحبها. والله آخذها. ويده فوق أيدي المتبايعين...
. (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه).. فهو الخاسر في كل جانب...
(ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما).. هكذا على إطلاقه: أجرا عظيما.. لا يفصله ولا يحدده. فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم. عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل...
والظاهر عندي: أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه...
ولما-{[60205]} ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسله له ، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير {[60206]}إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل ، أوضح المراد بتوحيد الضمير{[60207]} بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن{[60208]} أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان الذي هو علة الرسالة ، وما ذكره{[60209]} معه في جواب من يسأل : ما سبب توحيد الضمير والمذكور اثنان{[60210]} ؟ مؤكداً لأجل ما غلب على الطباع البشرية من التقيد بالوهم والنكوص عما غاب ولا مرشد إليه سوى العقل : { إن الذين } .
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد{[60211]} زمن معين كما نقلته في أول سورة{[60212]} البقرة عن أبي حيان وغيره ، عبر به-{[60213]} ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال : { يبايعونك } أي-{[60214]} في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي عمادها الثبات والصبر ، وسميت " مبايعة " لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة{[60215]} وهذا معنى الإسلام ، فكل من أسلم فقد باع نفسه{[60216]} سبحانه منه-{[60217]}
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم }[ التوبة : 111 ] ، الآية . { إنما يبايعون الله } أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له
{ وما ينطق عن الهوى }[ النجم : 3 ] .
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب ، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول ، فقال مبيناً للأول : { يد الله } أي المتردي بالكبرياء . ولما كان منزهاً . عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص ، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال : { فوق أيديهم } أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة و{[60218]}القوة والقهر{[60219]} والعزة ، والتنزه عن كل شائبة نقص ، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن{[60220]} الإدراك ، ثم أعاد ذكره بالضمير إيذاناً بالغيب المحض ، هذا هو المراد من تعظيم البيعة وإجلال الرسول صلى الله عليه وسلم مع العلم القطعي بتنزيه الله سبحانه عن كل شائبة نقص من حلول أو اتحاد كما هو واضح في مجاري عادات العرب ظاهر{[60221]} جداً في دأبهم{[60222]} في محاوراتهم ، لا يشك فيه منهم عاقل عالم أو جاهل أصلاً ، فلعنة الله-{[60223]} على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد على من تبعهم على ذلك من الرعاع الطغام الذين شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وجميع الأئمة الأعلام ، وسائر أهل الإسلام : ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين ، وناهيك به في ضلال مبين .
ولما كان كلام الله تعالى - وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لا بد أن يقع منه شيء وإن قل ، وكان من سر التعبير بالمضارع " يبايعونك " الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام فإنه{[60224]} اختبأ في الحديبية وقت البيعة في وقت من الأوقات ، فلم يبايع ، سبب{[60225]} عن ذلك وفصل ترغيباً وترهيباً ، فقال معبراً بالماضي إيذاناً بأنه لا ينكث أحد من أهل هذه البيعة : { فمن نكث } أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض { فإنما ينكث } وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً { على نفسه } لا على غيرها{[60226]} فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو-{[60227]} قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل{[60228]} به على نكثه عذاباً أليماً ، ولا يضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن الله ناصره لا محالة ، وكذا كل منكوث به إذا-{[60229]} أراد الله نصرته فإن يده سبحانه فوق كل يد .
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه ، أتبعه {[60230]}على عادته{[60231]} الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى : { ومن أوفى } أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة { بما عهد } {[60232]}وقدم الظرف{[60233]} اهتماماً به فقال : { عليه الله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه { فسيؤتيه } أي بوعد لا خلف فيه { أجراً عظيماً * } لا يسع عقولكم شرح وصفه ، ومن قرأ بالنون{[60234]} أظهر ما ستر في الجلالة من التعظيم ، والآية من الاحتباك : ذكر أولاً أن النكث عليه دليلاً على أن الوفاء له ثانياً ، وإيتاء الأجر ثانياً دليلاً على إحلال العقاب أولاً وسره أنه بين أن-{[60235]} ما يرديه الناكث من الأذى لغيره إنما هو واقع به ، لأن ذلك أعظم في الترهيب عن النكث لما جبل الإنسان عليه من النفرة عن ضر نفسه{[60236]} وبعده عنه ، وذكر الأجر للموفي لأنه أعظم في الترغيب ، وسبب بيعة الرضوان هذه " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فهم من بروك{[60237]} ناقته في الحديبية الإشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنه لم يأذن في دخولهم البلد الحرام في هذه السفرة ، فمشى مع إرادته سبحانه وتعالى لأنه ليس فيها مخالفة لما أمر به سبحانه إلى أن وقع الصلح الذي كان الفتح هو{[60238]} بعينه ، وكان في غضون{[60239]} ذلك أن أرسل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المشرفة ليخبر{[60240]} قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجئ لقتال وأنه لا يريد إلا الاعتمار ، فأرجف مرجفون بأنه قد قتل ، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم-{[60241]} على مناجزتهم فبايع الصحابة رضي الله عنهم على أن لا يفروا عنه ، فبايع كل من كان-{[60242]} معه إلا جد بن قيس ، فإنه اختبأ تحت إبط بعيره فلم يبايع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم مغفور له{[60243]} إلا صاحب الجمل الأحمر " .
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما }
( إن الذين يبايعونك ) بيعة الرضوان بالحديبية . ( إنما يبايعون الله ) هو نحو " من يطع الرسول فقد أطاع الله " ( يد الله فوق أيديهم ) التي بايعوا بها النبي ، أي هو تعالى مطلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها ( فمن نكث ) نقض البيعة ( فإنما ينكث ) يرجع وبال نقضه ( على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه ) بالياء والنون ( أجراً عظيماً ) .
قوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } أي الذين يبايعونك بالحديبية يا محمد من المؤمنين { إنما يبايعونك الله } إنما بيعتهم لله . والمراد بها بيعة الرضوان .
قوله : { يد الله فوق أيديهم } أي نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله . وقيل : نصرة الله إياهم أقوى وأعظم من نصرتهم إياه . وقيل غير ذلك . قوله : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } أي فمن نقض العهد بعد البيعة فإنما ينقض على نفسه . يعني ضرر ذلك النكث يرجع على نفسه بحرمانه حسن الجزاء وإلزامه العقاب .
قوله : { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } يعني ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الطاعة لله ورسوله والصبر على مجاهدة العدو لنصرة دين الله فسوف يؤتيه الله عظيم الثواب والجزاء .
على أن هذه البيعة ، وهي بيعة الرضوان كانت تحت شجرة بالحديبية وكان الصحابة ( رضوان الله عليهم ) الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة على الراجح . وفي ذلك روى البخاري عن جابر ( رضي الله عنه ) قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة {[4257]} .