( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
اللهو : كل ما يلهى عن ذكر الله .
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عِير ( إبل محمَّلة طعاما وغير ذلك من الشام ) فابتدرها الناس حتى لم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } . . .
والذي قدِم بهذه التجارة دِحْيةُ الكلبي من الشام ، وكانت العادةُ إذا قدمت هذه العير يُضرب بالطبل ليؤذَنَ الناسُ بقدومها ، فيخرجوا ليبتاعوا منها ، فيخرج الناس . فصادف مجيءُ هذه العِير وقتَ صلاة الجمعة ، فترك عدد من المصلّين الصلاة وذهبوا إليها . فعاتبهم الله على ذلك وأفهمهم أن الصلاة لها وقتٌ محترم
ولا يجوز تركها . ثم رغّبهم في سماع العظات من الأئمة وأن الله عنده ما هو خير من اللهو ومن التجارة ، فقال :
{ قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين }
فاطلبوا رزقه وتوكلوا عليه ، ولا يأخذ كل إنسان إلا ما كُتب له . والله كفيل بالأرزاق للجميع .
وكان عراك بن مالك ، رضي الله عنه ، إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إنّي أجبتُ دعوتك ، وصلّيت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتَني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين . عراك هذا من التابعين من الفقهاء العلماء .
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : خرجوا من المسجد ، حرصًا على ذلك اللهو ، و [ تلك ] التجارة ، وتركوا الخير ، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس ، وذلك [ في ] يوم جمعة ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب ، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله .
{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منغص ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق ، فإن الله خير الرازقين ، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب .
منها : أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ، يجب عليهم السعي لها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها .
ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضتان{[1099]} يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له .
ومنها : مشروعية النداء ليوم الجمعة ، والأمر به .
ومنها : النهى عن البيع والشراء ، بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه ، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال .
ومنها : الأمر بحضور الخطبتين{[1100]} يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما .
ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [ والتجارات ] والشهوات ، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .
تم تفسير سورة الجمعة ، ولله الحمد والثناء{[1101]} .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا} الآية. قال الشافعي: فلم أعلم مخالفا أنها نزلت في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سُلَيْم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم لَهْوٌ إذا تزوج أحد من الأنصار ضربوا بالكَبَرِ فعَيَّرَهم الله بذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا}. (الأم: 1/199. ون أحكام الشافعي: 1/94.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا" انْفَضّوا إلَيْها "يعني أسرعوا إلى التجارة "وَتَركُوكَ قائما" يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم: وتركوك يا محمد قائما على المنبر... عن أبي مالك، قال: قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، قال: فنزلت "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما"...
وأما اللهو، فإنه اختُلف من أيّ أجناس اللهو كان، فقال بعضهم: كان كَبَرا ومزامير... عن جابر بن عبد الله، قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرّون بالكبر والمزامير ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةَ أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها".
وقال آخرون: كان طبلاً... والذي هو أولى بالصواب في ذلك الخبر الذي رويناه عن جابر، لأنه قد أدرك أمر القوم ومشاهدهم.
وقوله: "قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجارَةِ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد الذي عند الله من الثواب، لمن جلس مستمعا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته يوم الجمعة إلى أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، خير له من اللهو ومن التجارة التي ينفضون إليها.
"وَاللّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ" يقول: والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإياه فاسألوا أن يوسع عليكم من فضله دون غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المعنى من هذا، والله أعلم، ليس الرؤية، وإنما المعنى منه عندنا كأنه قال: وإذا علموا، وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة، ولكن ينهى إليهم خبرها، فيعلمون بها، والله أعلم...
وقوله تعالى: {انفضوا إليها} ولم يقل إليهما، وقد ذكر شيئين، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما... لأن المقصود من خروجهم إنما كان، هو التجارة دون اللهو، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو؛ فجاز أن يكون ذكر اللهو لهذا المعنى، وإنما المقصود من ذلك التجارة... فإن قيل: كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم؟...
والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام... ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم، فكانت تلك تجارة يأملون منها منافع، لو لم يبادروا إليها ذهبت منهم. فإنما نفروا من المسجد جهلا منهم بحق الخطبة والخطاب... وقوله تعالى: {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة}...: كأنه قال: اتقوا الله فإنكم إذا اتّقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره؛ والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا...
وقوله تعالى: {والله خير الرازقين} ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ليكون هو خيرهم. ولكن المعنى من هذا في قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] وقوله: {وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45]. لأنه كان هو خير الرازقين، وأحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، لأنه لا يحكم إلا عدلا، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة. فكذلك قوله: {والله خير الرازقين}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال تعالى: {إليها} [أي: التجارة]، ولم يقل [إليه: أي اللهو] تهمماً بالأهم، إذ هي كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، وفي مصحف ابن مسعود: «ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين». وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا رأوا} أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي {تجارة} أي حمولاً هي موضع للتجارة...
{أو لهواً} أي ما يلهي عن كل نافع...
{انفضوا} أي نفروا متفرقين من العجلة...
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال: {قل} أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: {ما عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف {خير} ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: {من اللهو} ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: {ومن التجارة} أي وإن عظمت...
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "بينا نحن نصلي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. فنزلت: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما).. "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة. وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله (والله خير الرازقين)..
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ. ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق. فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها. وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة، وعدم النكوص من منتصف الطريق. والله المستعان
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] الآية. عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي « الصحيح» عن جابر بن عبد الله قال: « بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم». وفي رواية: وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} اه. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: « أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً».
وعن مجاهد ومقاتل: « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس». وفي رواية « أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام». وفي رواية « وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك». وقال جابر بن عبد الله « كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها»، فلذلك قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو...
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهواً} تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} [النساء: 83] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} [التوبة: 92] الآية.
والانفضاض: مطاوع فَضَّه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7].
وقوله: {أو لهواً} فيه للتقسيم، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ (تجارة) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وتركوك قائماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12].
وذيل الكلام بقوله: {والله خير الرازقين} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، وليس غير الله قادراً على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر.
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } أي تفرقوا عنك الى التجارة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة فقدمت عير وضرب لقدومها الطبل وكان ذلك في زمان غلاء بالمدينة فتفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم الى التجارة وصوت الطبل ولم يبق معه الا اثنا عشر نفسا وقوله { وتركوك قائما } أي في الخطبة { قل ما عند الله } للمؤمنين { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } فاياه فاسألوا ولا تنفضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب الرزق
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة فأقبلت عير من الشام بطعام وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورا بها فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ولم يبق معه إلا اثني عشر رجلا قال جابر بن عبد الله أنا أحدهم . وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة واختلف في الثاني عشرة فقيل : عبد الله بن مسعود وقيل : عمار بن ياسر وقيل : إنما بقي معه صلى الله عليه وسلم ثمانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء : " لقد كانت الحجارة سومت في السماء على المنفضين " وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة فقال مالك : ليس في ذلك عدد محدود وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون ، وقال الشافعي : أربعون ، وقال أبو حنيفة : ثلاثة مع الإمام وقيل : اثني عشر عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل : لم قال انفضوا إليها بضمير المنفرد وقد ذكر التجارة واللهو ؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه قاله الزمخشري .
والآخر : أنه قال ذلك تهمما بالتجارة إذ كانت أهم وكانت هي سبب اللهو ولم يكن اللهو سببها قاله ابن عطية .
{ وتركوك قائما } اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو واجب أم لا ، وإذا قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا ، فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين وقال أبو حنيفة : لا يجلس بين الخطبتين لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس ، وحجة مالك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } إن قيل : لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو ؟ فالجواب أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك : فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير من باب أولى وأحرى ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله : { إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } . قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله : { خير من اللهو ومن التجارة } قدم اللهو ليبين أن ما عند الله { خير من اللهو } وأنه أيضا { خير من التجارة } التي هي أعظم منه ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن .
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين }
{ وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } أي التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو { وتركوك } في الخطبة { قائماً قل ما عند الله } من الثواب { خير } للذين آمنوا { من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } يقال : كل إنسان يرزق عائلته ، أي من رزق الله تعالى .