والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
{ الذين تبوَّؤا الدار } : هم الأنصار الذين سكنوا المدينة .
{ ولا يجدون في صدورهم حاجة } : الحاجة هنا : الحسد والغيظ .
{ مما أوتوا } : مما أُعطي المهاجرون من الفيء .
{ ويؤثِرون } : ويقدمون غيرهم على أنفسهم ، ولو كان بهم خَصاصة : ولو كانوا فقراء .
{ ومن يوقَ شح نفسه } : ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال . المفلحون : الفائزون .
ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت أنفسهم عن الفيء ، ورضوا أن يكون للمهاجرين من إخوانهم ، وقال : إنهم مخلصون في إيمانهم ، ذوو صفات كريمة ، وشيم جليلة ، تدلّ على كرم النفوس ، ونبل الطباع .
( 1 ) فهم يحبّون المهاجرين ، وقد أسكنوهم معهم في دورهم ، وآخَوهم ، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله .
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال المهاجرون :
« يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم : حُسْنَ مواساةٍ في قليل ، وحسنَ بذل في كثير ! لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهيّأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم » .
والمهيأ : كل ما يريح الإنسان من مكان أو طعام . فعلّمهم الرسول الكريم أن يثنوا على إخوانهم الأنصار ويدعوا لهم مقابل ما أكرموهم به .
( 2 ) وهم لا يحسّون في أنفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره .
( 3 ) ويؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويقدّمونهم ، ولو كان بهم حاجة ، وهذا منتهى الكرم والإيثار ، وغاية التضحية . ولذلك ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار .
ثم بين الله تعالى أن الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا الشحّ ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم ، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم » رواه الإمام أحمد والبخاري في : الأدب المفرد ، والبيهقي .
وقال الرسول الكريم : « لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً » رواه الترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك ، وإنما أن يؤديَ الزكاة ، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم أنه قال : « بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف ، وأعطى في النائبة » .
وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .
ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]} الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .
الأولى- قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم } لا خلاف أن الذين تبوؤوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها . { والإيمان }نصب بفعل غير تبوأ ؛ لأن التبوء إنما يكون في الأماكن . و " من قبلهم " " من " صلة تبوأ والمعنى : والذين تبوؤوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه ؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ ، كقوله تعالى : " فأجمعوا أمركم وشركاءكم{[14841]} " [ يونس : 71 ] أي وادعوا شركاءكم ، ذكره أبو علي والزمخشري وغيرهما . ويكون من باب قوله :
ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال : تبوؤوا الدار ومواضع الإيمان . ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ ، كأنه قال : لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما . ويجوز أن يكون تبوأ الإيمان عل طريق المثل ، كما تقول : تبوأ من بني فلان الصميم . والتبوء : التمكن والاستقرار . وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .
الثانية- واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة ، فتأول قوم أنها معطوفة على قوله : " { للفقراء المهاجرين } وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض . ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ؛ لأن الله تعالى يقول : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا } إلى قوله " الفاسقين " [ الحشر : 2 ] فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع . ثم قال : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه . وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر . ثم قال : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " وهذا كلام غير معطوف على الأول . وكذا { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفيء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صَفَا لهم من الفيء . وكذا { والذين جاؤوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] ابتداء كلام ، والخبر { يقولون ربنا اغفر لنا } [ الحشر : 10 ] .
وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله { والذين تبوؤوا الدار } { والذين جاؤوا }معطوف على ما قبل ، وأنهم شركاء في الفيء ، أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوؤوا الدار . وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية { إنما الصدقات للفقراء } [ التوبة : 60 ] فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " فقال : هذه لهؤلاء . ثم قرأ { ما أفاء الله على رسوله - حتى بلغ - للفقراء المهاجرين } ، { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } ، { والذين جاؤوا من بعدهم } ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بِسَرْوِ حِمْيَر{[14842]} نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه . وقيل : إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي . ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت . فلما غدوا عليه قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة " الحشر " وتلا { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - إلى قوله - للفقراء المهاجرين } فلما بلغ قوله : { أولئك هم الصادقون } [ الحجرات : 15 ] قال : ما هي لهؤلاء فقط . وتلا قوله : { والذين جاؤوا من بعدهم } إلى قوله { رؤوف رحيم } [ الحشر : 10 ] ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك . والله اعلم .
الثالثة- روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر . وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن عمر أبقى سواد{[14843]} العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم ؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحِشْوَة والذَّرَارِي ، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك ، فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش ، فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة . ومن أبى أعطاه ثمن حظه . فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قسم خيبر ؛ لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها . وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش . وقيل إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى : { للفقراء المهاجرين - إلى قوله - ربنا إنك رؤوف رحيم } على ما تقدم . والله اعلم{[14844]} .
الرابعة- واختلف العلماء في قسمة العقار ، فقال مالك : للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين . وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين . وقال الشافعي : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال . فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعله وقفا عليهم فله . ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال . وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم .
قلت : وعلى هذا يكون{[14845]} قوله : { والذين جاؤوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] مقطوعا مما قبله ، وأنهم نُدبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
الخامسة- قال ابن وهب : سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ { والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الآية . وقد مضى الكلام في هذا ، وفي فضل الصلاة في المسجدين : المسجد الحرام ومسجد المدينة ، فلا معنى للإعادة .
السادسة- قوله تعالى : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره ، كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ، المعنى : مَسَّ حاجةٍ من فقد ما أوتوا . وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم . ثم قال : ( إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم ) . فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : بل نقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا . ونادت الأنصار : رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ) . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم{[14846]} . ويحتمل أن يريد به { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه . وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا . وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) .
السابعة- قوله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } في الترمذي عن أبي هريرة : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه مسلم أيضا . وخرّج عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال : من يضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : فعَلِّلِيهم{[14847]} بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل ، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه . قال : فقعدوا وأكل الضيف . فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد عجب الله{[14848]} - عز وجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة ) . وفي رواية عن أبي هريرة فال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه . فقال : ( ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ) ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة . فانطلق به إلى رحله . . . ، وساق الحديث بنحو الذي قبله ، وذكر فيه نزول الآية . وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل ، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية ، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه .
وكذا ذكر النحاس قال : قال أبو هريرة : نزل برجل من الأنصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : أطفئي السراج ونومي الصبية ، فنزلت { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - إلى قوله - فأولئك هم المفلحون } . وقيل : إن فاعل ذلك أبو طلحة . وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم : وقال ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ، فبعثه إليهم ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت { ويؤثرون على أنفسهم } . ذكره الثعلبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له ، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت : { ويؤثرون على أنفسهم } الآية . وقال ابن عباس قال النبي للأنصار يوم بني النضير : ( إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا ) فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم " الآية . والأول أصح . وفي الصحيحين عن أنس : أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير ، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه . لفظ مسلم . وقال الزهري عن أنس بن مالك : لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار ، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة ، وكانت أم أنس بن مالك تدعي أم سليم ، وكانت أم عبدالله بن أبي طلحة ، كان أخا لأنس لأمه ، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عِذَاقاً{[14849]} لها ، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته ، ثم أسامة بن زيد . قال ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة ، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم . قال : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه . خرجه مسلم أيضا .
الثامنة- الإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ، ورغبة في الحظوظ الدينية . وذلك ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة . يقال : آثرته بكذا ، أي خصصته به وفضلته . ومفعول الإيثار محذوف ، أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها ، حسب ما تقدم بيانه . وفي موطأ مالك : " أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ، فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه ، فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ؟ فقالت : أعطيه إياه . قالت : ففعلت . قالت : فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا : شاة وكَفَنَها{[14850]} . فدعتني عائشة فقالت : كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك . قال علماؤنا : هذا من المال الرابح ، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ، ولا ينقص ذلك مما يدخره عنه ، ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده . وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة ، وأن من فعل ذلك فقد وقى شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده . ومعنى ( شاة وكَفَنَها ) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم ، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور ، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن ، وذلك من طيب الطعام عندهم .
وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا ، فاشترى له عنقود بدرهم ، فجاء مسكين فسأل ، فقال : اعطوه إياه ، فخالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل ، فقال : أعطوه إياه ، ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إليه ، فأراد السائل أن يرجع فمنع . ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه ؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه . وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا محمد بن مطرف قال : حدثنا أبو حازم عن عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة ثم قال للغلام : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها . فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : وصله الله ورحمه ، ثم قال : تعالي يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان ، حتى أنفذها . فرجع الغلام إلى عمر ، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل ، وقال : اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل ، وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع ، فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووصله ، وقال : يا جارية ، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ فقالت : ونحن ! والله مساكين فأعطنا ، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها . فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال : إنهم إخوة ! بعضهم من بعض .
ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها ، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها{[14851]} . فإن قيل : وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ، قيل له : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه . فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فلم يكونوا بهذه الصفة ، بل كانوا كما قال الله تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس{[14852]} " [ البقرة : 177 ] . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك . والإمساك لن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال : هذه صدقة ، فرماه بها وقال : ( يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس ) . والله أعلم .
التاسعة- والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال السائرة :
والجود بالنفس أقصى غايةِ الجود{[14853]}
ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة : أنها الإيثار ، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام ، آثرته على نفسها فقالت : أنا راودته عن نفسه . وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم . فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ! لا يصيبونك ! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت . وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه ! آه ! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك ؟ فأشار أن نعم . فسمع آخر يقول : آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات . فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات . فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات . وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ! قدم علينا حاجا فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا . وإن فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا . فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا ، وإن وجدنا آثرنا . وسئل ذو النون المصري : ما حد الزاهد المنشرح صدره ؟ قال ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت .
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا ، إيثارا لصاحبه على نفسه .
العاشرة- قوله تعالى{[14854]} : " ولو كان بهم خصاصة " الخصاصة : الحاجة التي مختل بها الحال . وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر . فالخصاصة الانفراد بالحاجة ، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر .
أما الربيع إذا تكون خصاصةٌ *** عاش السقيم به وأثْرَى المُقْتِرُ
الحادية عشرة- قوله تعالى : " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " الشح والبخل سواء ؛ يقال : رجل شحيح بين الشُّح والشَّح والشّحاحة . قال عمرو بن كلثوم :
ترى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذا أُمِرَّتْ *** عليه لمالِه فيها مُهينا{[14855]} .
وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل . وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص ، تقول : شحِحت ( بالكسر ) تشح . وشحَحت أيضا تشُح وتشِح . ورجل شحيح ، وقوم شحاح وأشحة . والمراد بالآية : الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك . فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه . ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه . وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله عز وجل يقول :{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا . فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح بما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام ، لا يقنع . ابن جبير : الشح منع الزكاة وادخار الحرام . ابن عيينة : الشح الظلم . الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . ابن عباس : من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح . ابن زيد : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه . وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة ) . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ( اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها ) . وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلا في الطواف يدعو : اللهم قني شح نفسي . لا يزيد على ذلك شيئا ، فقلت له ؟ فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل . فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .
قلت : يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ) . وقد بيناه في آخر " آل عمران{[14856]} " . وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضر بابن آدم ؟ قالوا : الفقر . فقال كسرى : الشح أضر من الفقر ؛ لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا .
قوله : { والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم } التبوؤ معناه النزول . أي والذين سكنوا المدينة واتخذوها لهم منازل { والإيمان } منصوب بفعل مقدر . أي وقبلوا الإيمان{[4500]} وأخلصوا لله دينهم وإيمانهم . والمراد بهم الأنصار ، فهم الذين استوطنوا المدينة من قبل أن يهاجر إليها المؤمنون من أهل مكة . ثم وصف الله هؤلاء الأنصار بصفات مميزة ثلاث على سبيل الإطراء لهم والثناء عليهم بما هم أهله من الصدق والبر والسخاء وبذل العون والمساعدة لإخوانهم المهاجرين فقال : { يحبون من هاجر إليهم } أي أن الأنصار يحبون الذين أتوهم مهاجرين من مكة وقد تركوا وراءهم المال والأهل والوطن . فهم يحبونهم حبا خالصا لوجه الله وذلكم هو الحب الكريم الذي يخالج قلوب المؤمنين الصادقين وهم يحب بعضهم بعضا في الله .
وقال : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } يعني لا يجد الأنصار وهم الذين نزلوا المدينة من قبل المهاجرين شيئا من الحسد في قلوبهم مما أعطي المهاجرون من الفيء ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الفيء بين المهاجرين دون غيرهم من الأنصار باستثناء اثنين أعطاهما لفقرهما ، وقيل : باستثناء ثلاثة .
وقال : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ربهم خصاصة } الخصاصة والخصاص بمعنى الفقر{[4501]} ، أي يقدمون الفقراء والمحاويج على حاجة أنفسهم { ولو كان بهم خصاصة } يعني ولو كان بهم حاجة أو فاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم . وقد روى الترميذي عن أبي هريرة : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نوّمي الصّبية وأطفئي السراج وقرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } . وروي عن أبي هريرة أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى رجل من الأنصار رجلا من أهل الصّفّة فذهب به الأنصاري إلى أهله فقال للمرأة : هل من شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت الصبية . قال : فنوّميهم ، فإذا ناموا فأتيني فإذا وضعت فاطفيء السراج ، ففعلت ، وجعل الأنصاري يقدم إلى ضيفه ما بين يديه ، ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد عجب من فعالكما أهل السماء " ونزلت الآية{[4502]} .
تلك هي شيمة الإيثار المرغوب التي تتجلى في خلق المؤمنين الأتقياء الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله وحده فغشي قلوبهم من برد اليقين ما كانوا به أوفياء مخلصين أبرار . إن هذه الفضلية الكريمة ، فضيلة الإيثار على النفس إنما تتجلى في خلق المسلمين الغيورين من الطيبين . أولئك الذين صنعهم الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة ، وتشريعه الوارف المبارك .
إن ذلكم هو الإسلام العظيم الذي يصنع الإنسان الصالح الرفّاف ويخلق الحياة الكريمة الطاهرة الفضلى .
قوله : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } يوق ، من الوقاية والشح ، في اللغة بمعنى البخل من حرص{[4503]} . على أن المراد بالشح ههنا في قول العلماء أنه أكل أموال الناس بغير حق . قال ابن مسعود : الشح أن تأكل مال أخيك ظلما أو بغير حقه . وقيل : معناه الظلم . وقيل : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . والأظهر من الآية أن المراد بالشح : الضّنّ بالخير وعدم أدائه في وجوهه كالزكاة والصدقة وقرى الضيف وغير ذلك من وجوه الأداء والبذل فيما ينفع الناس أو يدفع عنهم الكروب والحوائج . وفي الخبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة " : وفي التنديد بالشح روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وروى عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ، وإياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
قوله : { فأولئك هم المفلحون } وهم الذين تبرأوا من ذميمة الشح فغلبوا ما أمرتهم به أنفسهم وخالفوا هواهم بإذن الله وتوفيقه فأولئك هم الظافرون الفائزون .