ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ، وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء . ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء !
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد ، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . . .
إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه - فهو الغني - إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف ، والتكافل الجميل ، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .
فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير ? وهذه الرحمة ? وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم ? أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق ?
الماعون : اسمٌ جامع لكل ما ينتفَع به من أدوات البيت ، والإناءُ المعروف .
كذلك فإنهم : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } ويمنعون عن الناس معروفَهم ومعونَتَهم . وهؤلاء موجودون في كل زمانٍ وكل مكان . وتنطبق هذه الآية الكريمة على معظم العرب والمسلمين .
ولا يمكن أن ننهضَ ونصيرَ أمةً ذاتَ كرامةٍ وسيادة إلا إذا أصلحْنا أنفسَنا ، وأعدْنا النظر في تربية النَّشْءِ تربيةً صالحة ، وسِرنا على تعاليم ديننا الحنيف مُقْتَدين بسيرةِ سيّدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وسَلَفِنا الصالح ، وأخذْنا بالعلم الصحيح .
{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } أي : يمنعون إعطاء الشيء ، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية ، أو الهبة ، كالإناء ، والدلو ، والفأس ، ونحو ذلك ، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به{[1483]} .
فهؤلاء -لشدة حرصهم- يمنعون الماعون ، فكيف بما هو أكثر منه .
وفي هذه السورة ، الحث على إكرام{[1484]} اليتيم ، والمساكين ، والتحضيض على ذلك ، ومراعاة الصلاة ، والمحافظة عليها ، وعلى الإخلاص [ فيها و ] في جميع الأعمال .
والحث على [ فعل المعروف و ] بذل الأموال الخفيفة ، كعارية الإناء والدلو والكتاب ، ونحو ذلك ؛ لأن الله ذم من لم يفعل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين .
السادسة : قوله تعالى : { ويمنعون الماعون } فيه اثنا عشر قولا : الأول : أنه زكاة أموالهم . كذا روى الضحاك عن ابن عباس . وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك ، وقاله مالك . والمراد به المنافق يمنعها . وقد روى أبو بكر{[16477]} بن عبد العزيز عن مالك قال : بلغني أن قوله الله تعالى : { فويل للمصلين . الذين هم على صلاتهم ساهون . الذين هم يراؤون . ويمنعون الماعون } قال : إن المنافق إذا صلى صلى رياءً ، وإن فاتته لم يندم عليها ، { ويمنعون الماعون } الزكاة التي فرض الله عليهم . قال زيد بن أسلم : لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا . القول الثاني : أن " الماعون " المال ، بلسان قريش ، قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب . وقول ثالث : أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك ، قاله ابن مسعود ، وروي عن ابن عباس أيضا . قال الأعشى :
بأجود منه بمَاعُونِه *** إذا ما سماؤهم لم تَغِمِ
الرابع : ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة ، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ، وأنشدوا بيت الأعشى . قالوا : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ، وأنشدوا قول الراعي :
أخليفةَ الرحمن إنا معشر *** حنفاء نسجدُ بكرة وأصيلا
عَرَبٌ نرى لله من أموالنا *** حقَّ الزكاة منزَّلاً تنزيلا
قومٌ على الإسلام لما يمنعوا *** مَاعُونَهُمْ ويضيعوا التَّهْلِيلاَ{[16478]}
يعني الزكاة . الخامس : أنه العارية ، وروي عن ابن عباس أيضا . السادس : أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ، قاله محمد بن كعب والكلبي . السابع : أنه الماء والكلأ . الثامن : الماء وحده . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون : الماء ، وأنشدني فيه :
الصبير : السحاب . التاسع : أنه منع الحق ، قاله عبد الله بن عمر . العاشر : أنه المستغل من منافع الأموال ، مأخوذ من المعن وهو القليل ، حكاه الطبري عن ابن عباس{[16479]} . قال قطرب : أصل الماعون من القلة . والمعن : الشيء القليل ، تقول العرب : ماله سعنة{[16480]} ولا معنة ، أي شيء قليل . فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا ؛ لأنه قليل من كثير . ومن الناس من قال : الماعون : أصله معونة ، والألف عوض من الهاء ؛ حكاه الجوهري . ابن العربي : الماعون : مفعول{[16481]} من أعان يعين ، والعون : هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر . الحادي عشر : أنه الطاعة والانقياد . حكى الأخفش عن أعرابي فصيح : لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون ، أي تنقاد لك وتعطيك . قال الراجز :
متى تصادفْهُن{[16482]} في البرينِ *** يخضعن أو يعطين بالماعون{[16483]}
وقيل : هو ما لا يحل منعه ، كالماء والملح والنار ؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت : قلت يا رسول الله ، ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : ( الماء والنار والملح ) قلت : يا رسول الله هذا الماء ، فما بال النار والملح ؟ فقال : " يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار ، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح ، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء ، فكأنما أعتق ستين نسمة . ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد ، فكأنما أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " . ذكره الثعلبي في تفسيره ، وخرجه ابن ماجه في سننه . وفي إسناده لين ، وهو القول الثاني عشر . الماوردي : ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله ، وقد ثقله الله . والله أعلم . وقيل لعكرمة مولى ابن عباس : من منع شيئا من المتاع كان له الويل ؟ فقال : لا ، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل ، يعني : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالماعون .
قلت : كونها في المنافقين أشبه ، وبهم أخلق ؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة ، والرياء ، والبخل بالمال ، قال الله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }{[16484]} [ النساء : 142 ] ، وقال : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون }{[16485]} . [ التوبة : 54 ] . وهذه أحوالهم ، ويبعد أن توجد من مسلم محقق ، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ ، وذلك في منع الماعون إذا تعين ، كالصلاة إذا تركها . والله أعلم . إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة . والله أعلم .
قوله : { ويمنعون الماعون } أي يمنعون الناس ما عندهم من منافع . واختلفوا في المراد بالماعون . فقيل : المراد به الزكاة ، أي يمنعون زكاة أموالهم فلا يعطونها الفقراء . وقيل : هو القدر ، والدلو ، والفأس ونحو ذلك مما يتعاوره الناس ويتعاطونه بينهم . وقيل : المراد به العارية . فالناس يستعير بعضهم من بعض أغراضا من متاع البيت ، كالفأس والقدر والكأس وغير ذلك من الأواني مما يحتاج إليه المرء ، فما ينبغي للمسلم في مثل هذه الحال أن يبخل ببذل ما يبتغيه أخوه من غرض .
ذلك أن المسلمين جميعا إخوة في العقيدة والدين . فهم بذلك متحابون متعاونون ما بينهم ، ولا سلطان للشح على قلوبهم ؛ بل يبادرون ببذل الخير أو المتاع لإخوانهم . وإذا لم يكن المسلم على هذه الصفة من أداء الخير للآخرين فما ينبغي له أن يكون في عداد المسلمين الصادقين{[4865]} .