( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم ) .
والاستواء هنا القصد . والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة . و( ثم )قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للارتقاء المعنوي . والسماء في الحس أرفع وأرقى .
( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . . إن هناك اعتقاداً أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم . وهذا السديم غاز . . دخان
" والسدم - من نيرة ومعتمة - ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم . إن نظرية الخلق تقول : إن المجرة كانت من غاز وغبار . ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم . وبقيت لها بقية . ومن هذه البقية كانت السدم . ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار ، يساوي ما تكونت منه النجوم . ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها . فهي تكنس السماء منه كنساً . ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولاً "
وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) . . وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل . في يومين من أيام الله .
( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا : أتينا طائعين ) . .
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس ، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته . فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرهاً في أغلب الأحيان . إنه خاضع حتماً لهذا الناموس ، لا يملك أن يخرج عنه ، وهو ترس صغير جداً في عجلة الكون الهائلة ؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره . ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعاً طاعة الأرض والسماء . إنما يحاول أن يتفلت ، وينحرف عن المجرى الهين اللين ؛ فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه - وقد تحطمه وتسحقه - فيستسلم خاضعاً غير طائع . إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم . . تصطلح كلها مع النواميس الكلية ، فتأتي طائعة ، وتسير هينة لينة ، مع عجلة الكون الهائلة ، متجهة إلى ربها مع الموكب ، متصلة بكل ما فيه من قوى ، . وحينئذ تصنع الأعاجيب ، وتأتي بالخوارق ، لأنها مصطلحة مع الناموس ، مستمدة من قوته الهائلة ، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله( طائعين ) . .
إننا نخضع كرهاً . فليتنا نخضع طوعاً . ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء . في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين .
إننا نأتي أحياناً حركات مضحكة . . عجلة القدر تدور بطريقتها . وبسرعتها . ولوجهتها . وتدير الكون كله معها . وفق سنن ثابتة . . ونأتي نحن فنريد أن نسرع . أو أن نبطئ . نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل . نحن بما يطرأ على نفوسنا - حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير - من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة . . ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض . ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم . ونصطدم هنا وهناك ونتحطم . والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها . وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى . فأما حين تؤمن قلوبنا حقاً ، وتستسلم لله حقاً ، وتتصل بروح الوجود حقاً . فإننا - حينئذ - نعرف دورنا على حقيقته ؛ وننسق بين خطانا وخطوات القدر ؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة ، في المدى المناسب . نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود . ونصنع أعمالاً عظيمة فعلاً ، دون أن يدركنا الغرور . لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة . ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية ، إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى .
ويا للرضى . ويا للسعادة . ويا للراحة . ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة ، على هذا الكوكب الطائع الملبي ، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف . .
ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق . كله مستسلم لربه ، ونحن معه مستسلمون . لا تشذ خطانا عن خطاه ، ولا يعادينا ولا نعاديه . لأننا منه . ولأننا معه في الاتجاه :
استوى إلى السماء : قصد نحوها .
دخان : مادة غازية أشبه بالدخان .
ثم توجهتْ إرادته تعالى إلى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن ، وخلقَ السموات والأرض على وفق إرادته ، فقال للسماء والأرض ، ائتيا طائعين
أو مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير ، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات ، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما ، قالتا : أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم .
{ ثُمَّ } بعد أن خلق الأرض { اسْتَوَى } أي : قصد { إِلَى } خلق { السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قد ثار على وجه الماء ، { فَقَالَ لَهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم الاختصاص ، عطف عليه بقوله : { وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : انقادا لأمري ، طائعتين أو مكرهتين ، فلا بد من نفوذه . { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك .
قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " أي عمد إلى خلقها وقصد لتسويتها . والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال ، يدل عليه قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " [ البقرة : 29 ] وقد مضى القول هناك{[13418]} . وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء ، وقال الحسن . ومن قال : إنه صفة ذاتية زائدة قال : استوى في الأزل بصفاته . و " ثم " ترجع إلى نقل السماء من صفة الدخان إلى حالة الكثافة . وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، على ما مضى في " البقرة " عن ابن مسعود وغيره . " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي . قال ابن عباس : قال الله تعالى للسماء : أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجري رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شقي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين " قالتا أتينا طائعين " في الكلام حذف أي أتينا أمرك " طائعين " . وقيل : معنى هذا الأمر التسخير ، أي كونا فكانتا كما قال تعالى : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " [ النحل : 40 ] فعلى هذا قال ذلك قبل خلقهما . وعلى القول الأول قال ذلك بعد خلقهما . وهو قول الجمهور . وفي قوله تعالى لهما وجهان : أحدهما أنه قول تكلم به . الثاني أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد ، ذكره الماوردي . " قالتا أتينا طائعين " فيه أيضا وجهان : أحدهما أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما ، ومنه قول الراجز :
امتلأ الحوضُ وقال قَطْنِي *** مَهْلاً رويداً قد ملأتُ بَطْنِي
يعني ظهر ذلك فيه . وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى : قال أبو نصر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ، ونطق من السماء ما بحيالها ، فوضع الله تعالى فيه حرمه . وقال : " طائعين " ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى ؛ لأنهما سموات وأرضون ؛ لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما ، وقيل : لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل ، ومثله : " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف : 4 ] وقد تقدم{[13419]} . وفي حديث : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب لو أن السموات والأرض حين قلت لهما " ائتيا طوعا أو كرها " عصياك ما كنت صانعا بهما ؟ قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما . قال : يا رب وأين تلك الدابة ؟ قال : في مرج من مروجي . قال : يا رب وأين ذلك المرج ؟ قال : علم من علمي . ذكره الثعلبي . وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة " آتيا " بالمد والفتح . وكذلك قوله : " آتينا طائعين " على معنى أعطيا الطاعة من أنفسكما " قالتا " أعطينا " طائعين " فحذف المفعولين جميعا . ويجوز وهو أحسن أن يكون " آتينا " فاعلنا فحذف مفعول واحد . ومن قرأ " آتينا " فالمعنى جئنا بما فينا ، على ما تقدم بيانه في غير ما موضع والحمد لله .
{ ثم استوى إلى السماء } أي : قصد إليها ، ويقتضي هذا الترتيب : أن الأرض خلقت قبل السماء ، فإن قيل : كيف الجمع بين ذلك وبين قوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] فالجواب أنها خلقت قبل السماء ، ثم دحيت بعد ذلك .
{ وهي دخان } روي : أنه كان العرش على الماء فأخرج إليه من الماء دخان فارتفع فوق الماء فأيبس الماء فصار أرضا ، ثم خلق السماوات من الدخان المرتفع .
{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } هذه عبارة عن لزوم طاعتهما كما يقول الملك لمن تحت يده : افعل كذا شئت أو أبيت أي : لا بد لك من فعله ، وقيل : تقديره ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها ومعنى : هذا الإتيان تصويرهما على الكيفية التي أرادها الله وقوله لهما : { ائتيا } مجاز وهو عبارة عن تكوينه لهما وكذلك قولهما : أتينا طائعين عبارة عن أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما وقيل : بل ذلك حقيقة وأنطق الله الأرض والسماء بقولهما : أتينا طائعين وإنما جمع طائعين جمع العقلاء لوصفهما بأوصاف العقلاء .