وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم إلى البذل في سبيل الله ؛ ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية ، كما عالج شحها في ذات النفس عند الجهاد :
( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله . فمنكم من يبخل . ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه . والله الغني وأنتم الفقراء . وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك . ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة . فهي تقرر أن منهم من يبخل . ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء . وقد كان هذا واقعا ، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة ، وسجله القرآن في مواضع أخرى . وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء . ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال . ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال !
والقرآن يعالج هذا الشح في هذه الآية :
( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ) . .
فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور ، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد ، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون . فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور . فإذا بخلوا بالبذل ، فإنما يبخلون على أنفسهم ؛ وإنما يقللون من رصيدهم ؛ وإنما يستخسرون المال في ذواتهم وأشخاصهم ؛ وإنما يحرمونها بأيديهم !
أجل . فالله لا يطلب إليهم البذل ، إلا وهو يريد لهم الخير ، ويريد لهم الوفر ، ويريد لهم الكنز والذخر . وما يناله شيء مما يبذلون ، وما هو في حاجة إلى ما ينفقون :
( والله الغني وأنتم الفقراء ) . .
فهو الذي أعطاكم أموالكم ، وهو الذي يدخر لكم عنده ما تنفقونه منها . وهو الغني عما أعطاكم في الدنيا ، الغني عن أرصدتكم المذخورة في الآخرة . وأنتم الفقراء في الدارين وفي الحالين . أنتم الفقراء إلى رزقه في الدنيا ، فما لكم من قدرة على شيء من الرزق إلا أن يهبكم إياه . وأنتم الفقراء إلى أجره في الآخرة ، فهو الذي يتفضل به عليكم ، وما أنتم بموفين شيئا مما عليكم ، فضلا على أن يفضل لكم شيء في الآخرة ، إلى أن يتفضل عليكم .
ففيم البخل إذن وفيم الشح ? وكل ما في أيديكم ، وكل ما ينالكم من أجر على ما تنفقون هو من عند الله ، ومن فضل الله ?
ثم الكلمة الأخيرة وهي فصل الخطاب . .
إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومن وعطاء . فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل ، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة ، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه . . فإن الله يسترد ، ما وهب ، ويختار غيركم لهذه المنة ممن يقدر فضل الله :
( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان ، وأحس بكرامته على الله ، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم . ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه ؛ ونور الله في كيانه ؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه . .
وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه ، ويطرد من الكنف ، وتوصد دونه الأبواب . لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب .
إن الإيمان هبة ضخمة ، لا يعدلها في هذا الوجود شيء ؛ والحياة رخيصة رخيصة ، والمال زهيد زهيد ، حين يوضع الإيمان في كفة ، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه . .
ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله . .
قوله تعالى : " ها أنتم هؤلاء تدعون " أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون " لتنفقوا في سبيل الله " أي في الجهاد وطريق الخير . " فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " أي على نفسه ، أي يمنعها الأجر والثواب . " والله الغني " أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم . " وأنتم الفقراء " إليها . " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " أي أطوع لله منكم . روى الترمذي عن أبى هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " قالوا : ومن يستبدل بنا ؟ قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال : [ هذا وقومه . هذا وقومه ] قال : حديث غريب في إسناده مقال . وقد روى عبد الله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال أنس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان ، قال : [ هذا وأصحابه . والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ] . وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : هم فارس والروم . قال المحاسبي : فلا أحد بعد العربي من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا ، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس . وقيل : إنهم اليمن ، وهم الأنصار ، قاله شريح بن عبيد . وكذا قال ابن عباس : هم الأنصار . وعنه أنهم الملائكة . وعنه هم التابعون . وقال مجاهد : إنهم من شاء من سائر الناس . قال الطبري : أي في البخل بالإنفاق في سبيل الله . وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : [ هي أحب إلي من الدنيا ] . والله أعلم .
ختمت السورة بحمد الله وعونه ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه الأطهار .
قوله : { هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } يعني ها أنتم هؤلاء أيها الناس يدعوكم ربكم لتنفقوا في مجاهدة أعداء الله ونصرة دينه ، وفي غير ذلك من وجوه الخير { فمنكم من يبخل } أي يبخل عن النفقة فيضن بالبذل في سبيل الله { من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } من يبخل دون بذلك المال في سبيل الله أو في وجوه الخير فإنه لا يبخل إلا عن نفسه ، بحرمانها الثواب وحسن الجزاء .
قوله : { والله الغني وأنتم الفقراء } لا حاجة لله في أموالكم ، فهو سبحانه مالك الملك وهو الغني عن العالمين . وهو الذي يمن عليكم أن رزقكم الخير من فضله وملكه ، فأنتم المحتاجون لعطاء الله ، الفقراء إليه .
قوله : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } يعني : وإن تعرضوا عن دين الإسلام ، وهو دين الحق والعدل والرحمة والتوحيد فتنقلبوا مرتكسين خاسرين فإن الله يذهب بكم ويأت بآخرين بدلا منكم وهم خير منكم . وهو قوله : { ثم لا يكونوا أمثالكم } أي لا يشبهونكم في الإعراض عن دين الله . أو في البخل بالنفقة وبذلك المال في سبيل الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.