في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

46

ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق ، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف ، وأسباب الرزق المعلومة . فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب :

وكأي من دابة لا تحمل رزقها ، الله يرزقها وإياكم . .

لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم . فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، ولا كيف تحتفظ به معها . ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا . وكذلك يرزق الناس . ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه . إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه . وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله ، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله . فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة . فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا . كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها ، ولكن الله يرزقها ولا يدعها .

ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله ، وإشعارهم برعايته وعنايته ، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم ، ولا يدعهم وحدهم : ( وهو السميع العليم ) . .

وتنتهي هذه الجولة القصيرة ؛ وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ؛ ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج . وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة ، ومكان كل قلق ثقة ، ومكان كل تعب راحة . وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان .

ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب . ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

قوله تعالى : " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم " أسند الواحدي عن يزيد بن هارون قال : حدثنا حجاج بن المنهال عن الزهري - وهو عبد الرحمن بن عطاء - عن عطاء عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من الثمر ويأكل{[12422]} فقال : ( يا ابن عمر مالك لا تأكل ) فقلت لا أشتهيه يا رسول الله فقال : ( لكني اشتهيه وهذه صبيحة رابعة لم أذق طعاما ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين ) قال : والله ما برحنا حتى نزلت : " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " .

قلت : وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم اتفق البخاري عليه ومسلم ، وكانت الصحابة يفعلون ذلك ، وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين ، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون ( اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة ) قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا . فنزلت : " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم " أي ليس معها رزقها مدخرا ، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة ، وهذا أشبه من القول الأول وتقدم الكلام في " كأين " وأن هذه " أي " دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم ، والتقدير عند الخليل وسيبويه كالعدد أي كشيء كثير من العدد من دابة . قال مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تخمل شيئا الحسن : تأكل لوقتها ولا تدخر لغد وقيل : " لا تحمل رزقها " أي لا تقدر على رزقها " الله يرزقها " أينما توجهت " وإياكم " وقيل : الحمل بمعنى الحمالة . وحكى النقاش : أن المراد النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ولا يدخر .

قلت : وليس بشيء ؛ لإطلاق لفظ الدابة وليس مستعملا في العرف إطلاقها على الآدمي ، فكيف على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد مضى هذا في " النمل " عند قوله : " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم " [ النمل : 82 ] قال ابن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان ، فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر ، وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في محضنه . ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها " الله يرزقها وإياكم " يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه ، وبين الراغب والقانع ، وبين الحَيُول والعاجز حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده ، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أنكم توكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) . " وهو السميع " لدعائكم وقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة " العليم " بما في قلوبكم .


[12422]:الزيادة من كتاب "أسباب النزول" للواحدي.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة ، لا مال ولا أهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فكأيّ من متوكل عليه كفاه ، ولم يحوجه إلى أحد سواه ، فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه : { وكأيّن من دابة } أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها { لا تحمل } أي لا تطيق أن تحمل { رزقها } ولا تدخر شيئاً لساعة أخرى ، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك ، وقد تدركه وتتوكل ، أو لا تجد .

ولما كان موضع أن يقال : فمن يرزقها ؟ قال جواباً له : { الله } أي المحيط علماً وقدرة ، المتصف بكل كمال { يرزقها } وهي لا تدخر { وإياكم } وأنتم تدخرون ، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم ، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون ، فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظورا إليه .

ولما كان أهم ما للحيوان الرزق ، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقاً ويهمهم به إن كان صامتاً ، أما العاقل فبأمور كلية ، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية ، وكان العاقل ربما قال : إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك ، قال تعالى : { وهو السميع } أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره { العليم* } أي بما يعلم من ذلك ، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم ، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه ، وهو قادر على أن يسبب لما اعتمد عليه الإنسان من الأسباب المنتجة عنده ولا بد ما يعطله ، وعلى أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيه ، ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف - نفعنا الله بهم - وجد كثيراً من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٖ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ يَرۡزُقُهَا وَإِيَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (60)

قوله : { وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } كأين في موضع رفع مبتدأ بمنزلة ( كم ) . و { مِن دَابَّةٍ } تبيين له . و { لا تَحْمِلُ } في موضع جر صفة لدابة . { اللهُ } : مبتدأ ، وخبره الجملة ، { يَرْزُقُهَا } . والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر كأين{[3579]} والدابة ، والدبيب : كل ماش على الأرض{[3580]} ، وقال ابن عباس : الدواب كل ما دب من الحيوان ، فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر .

وفي الآية يدعو الله جل وعلا المؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا على حيث العبادة والطاعة والتزام شرع الله في أمن وطمأنينة ، مجانبين الفتنة والضلال ، ويدعوهم أيضا أن يجاهدوا الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ويكيدون للإسلام والمسلمين كيدا ، وأن لا يخشوا افتقارا أو قلة ؛ فإنما رزقهم على الله ، يرزق من يشاء بغير حساب . وهو سبحانه الخالق الرازق لا ينسى من فضله أحدا من خلقه ؛ فكم من دابة محتاجة إلى غذاء وشراب { لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي لا تحمل معها غذاءها فتخزنه لغدها ؛ فإنها عاجزة عن فعل ذلك { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } يتساوى المرزوقون في تحصيل الرزق ، الحريصون منهم أو المتوكلون ، والراغبون أو القانعون ، والجادون أو العاجزون ، فكل مرزوق بفضل الله وتقديره . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم توكّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " .

قوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } الله يسمع قولكم : نخشى بالهجرة ومفارقة الأوطان أن نفتقر ويمسنا البؤس والحاجة . وهو يعلم ما تخفونه في قلوبكم وما أنتم صائرون إليه{[3581]} .


[3579]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 246.
[3580]:مختار الصحاح ص 197، وأساس البلاغة ص 181.
[3581]:تفسير الطبري ج 21 ص 7-8، والكشاف ج 3 ص 211.