ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلا ، لا من ناحية العدد ، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن ؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم :
( لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج - ولو أعجبك حسنهن )لا يستثني من ذلك - ( إلا ما ملكت يمينك ) . . فله منهن ما يشاء . . ( وكان الله على كل شيء رقيبا ) . . والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب .
وقد روت عائشة - رضي الله عنها - أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتركت له حرية الزواج . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة . فكن هن أمهات المؤمنين . .
الأولى- قوله تعالى : " لا يحل لك النساء من بعد " اختلاف العلماء في تأويل قوله : " لا يحل لك النساء من بعد " على أقوال سبعة : الأولى : إنها منسوخة بالسنة ، والناسخ لها حديث عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقد تقدم{[12894]} . الثاني : أنها منسوخة بآية أخرى ، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قوله عز وجل : " ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء " . قال النحاس : وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية ، وهو وقول عائشة واحد في النسخ . وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن . وهو مع هذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك . وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال : محال أن تنسخ هذه الآية يعني " ترجي من تشاء منهن " " لا يحل لك النساء من بعد " وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون ورجح قول من قال نسخت بالسنة . قال النحاس : وهذه المعاوضة لا تلزم وقائلها غالط ؛ لأن القرآن بمنزلة صورة واحدة ، كما صح عن ابن عباس : أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان . ويبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم أن قوله عز وجل : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " {[12895]} [ البقرة : 240 ] منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافا - بالآية التي قبلها " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " {[12896]} [ البقرة : 234 ] . الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم حظر عليه أن يتزوج على نسائه ؛ لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام . قال النحاس : وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ . الرابع : أنه لما حرم عليهن أن يتزوجن بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن ، قاله أبو أمامة بن سهل بن حنيف .
قوله تعالى : " لا يحل لك النساء من بعد " أي من بعد الأصناف التي سميت ، قاله أبي بن بن كعب وعكرمة وأبو رزين ، وهو اختيار محمد بن جرير . ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا : " لا يحل لك السعاة " معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات . وهذا تأويل فيه بعد . وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا . وهو القول السادس . قال مجاهد : لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين . وهذا القول يبعد لأنه يقدره : من بعد المسلمات ، ولم يجر للمسلمات ذكر . وكذلك قدر " ولا أن تبدل بهن " أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية .
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك . قال : وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن كعب القرظي .
الثانية- قوله تعالى : " ولا أن تبدل بهن من أزواج " قال ابن زيد : هذا شيء كانت العرب تفعله ، يقول أحدهم : خذ زوجتي وأعطني زوجتك ، روى الدارقطني عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك ، فأنزل الله عز وجل " ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن " قال : فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عيينة فأين الاستئذان ) ؟ فقال : يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت . قال : من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذه عائشة أم المؤمنين ) قال : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق . فقال : ( يا عيينة ، إن الله قد حرم ذلك ) . قال فلما خرج قالت عائشة : يا رسول الله ، من هذا ؟ قال : ( أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ) . وقد أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب ، من أنها كانت تبادل بأزواجها . قال الطبري : وما فعلت العرب قط هذا . وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة . . . الحديث ، فليس بتبديل ، ولا أراد ذلك ، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول .
قلت : وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك ، والله أعلم . قال المبرد : وقرئ " لا يحل " بالياء والتاء . فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء ، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء . وزعم الفراء قال : اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء ، وهذا غلط . وكيف يقال : اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه .
الثالثة-قوله تعالى : " ولو أعجبك حسنهن " قال ابن عباس : نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس ، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حسنها ، فأراد أن يتزوجها ، فنزلت الآية ، وهذا حديث ضعيف . قاله ابن العربي .
الرابعة-في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها . وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم{[12897]} بينكما ) . وقال عليه السلام لآخر : ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا ) أخرجه الصحيح . قال الحميدي وأبو الفرج الجوزي : يعني صفراء أو زرقاء . وقيل : رمصاء{[12898]} .
الخامسة- الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة ، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها . ومما يدل على أن الأم على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ) . فقوله : ( فإن استطاع فليفعل ) لا يقال مثله في الواجب . وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر . وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم للأحاديث الصحيحة ، وقوله تعالى : " ولو أعجبك حسنهن " . وقال سهل بن أبي خيثمة : رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك على إجار من أجاجير المدينة فقلت له : أتفعل هذا ؟ فقال نعم ! قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها ) . الإجار : السطح ، بلغة أهل الشام والحجاز . قال أبو عبيد : وجمع الإجار أجاجير وأجاجرة .
السادسة- اختلف فيما يجوز أن ينظر منها ، فقال مالك : ينظر إلى وجهها وكفيها ، ولا ينظر إلا بإذنها . وقال الشافعي وأحمد : بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة . وقال الأوزاعي : ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها . قال داود : ينظر إلى سائر جسدها ، تمسكا بظاهر اللفظ . وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة . والله أعلم .
السابعة- قوله تعالى : " إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا " اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين : تحل لعموم قوله : " إلا ما ملكت يمينك " ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم . قالوا : قوله تعالى " لا يحل لك النساء من بعد " أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات ، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك ، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها ، إلا ما ملكت يمينك ، فإن له أن يتسرى بها . القول الثاني : لا تحل تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة ، وقد قال الله تعالى : " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " {[12899]} [ الممتحنة : 10 ] فكيف به صلى الله عليه وسلم . و " ما " في قوله : " إلا ما ملكت يمينك " في موضع رفع بدل من " النساء " . ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء ، وفيه ضعف . ويجوز أن تكون مصدرية ، والتقدير : إلا ملك يمينك ، وملك بمعنى مملوك ، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول .
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة ، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه ، وختم ذلك بما يسر أزواجه ، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال : { لا يحل لك النساء } ولما كان تعالى شديد العناية به{[55872]} صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه ، فأثبت الجار فقال : { من بعد } أي من{[55873]} بعد من معك من هؤلاء التسع - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما{[55874]} في رواية عنه ، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله ، فتكون الآية منسوخة بما تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال{[55875]} من آية { إنا أحللنا لك أزواجك } وفي رواية{[55876]} أخرى عنه من بعد { اللاتي أحللنا لك } بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن ، ويؤيدها ما {[55877]}تقدمت روايته{[55878]} عن أم هانئ رضي الله عنها .
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع ، لا بقيد المعينات ، قال : { ولا أن تبدل بهن } أي هؤلاء التسع ، وأعرق في النفي بقوله : { من } أي شيئاً من{[55879]} { أزواج } أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع ، فعلم بهذا أن الممنوع منه{[55880]} نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً ، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين ، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه {[55881]}فهم منها{[55882]} ،
/ لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها .
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ{[55883]} صفة كانت ، أكد المعنى وحققه ، وصرح به في قوله حالاً من فاعل " تبدل " : { ولو أعجبك حسنهن } أي النساء المغايرات لمن معك ، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف ؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء ، بين أن المراد الأزواج فقط{[55884]} بقوله : { إلا ما ملكت يمينك } أي فيحل لك منهن ما شئت ، وقد ملك {[55885]}رسول الله{[55886]} صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة ، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت ، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام .
ولما تقدم{[55887]} سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً{[55888]} ، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال : { وكان الله } أي الذي لا شيء أعظم منه ، وهو المحيط بجميع صفات الكمال { على كل شيء رقيباً } أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى ، ولا يكون الرقيب إلا قريباً ، ولا أقرب من قرب{[55889]} الحق سبحانه ، فلا أرعى من رقبته ، وهو من أشد الأسماء وعيداً .