في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه ، تجيء الفقرة التالية في الوصية ، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل . ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة ، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح ، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان ، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، فتكن في صخرة ، أو في السماوات ، أو في الأرض ، يأت بها الله . إن الله لطيف خبير ) . .

وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله ، وعن قدرة الله سبحانه ، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور . وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء ، العميقة الإيقاع . . حبة من خردل . صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة . ( فتكن في صخرة ) . . صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها . ( أو في السماوات ) . . في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة . ( أو في الأرض )ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين . ( يأت بها الله ) . . فعلمه يلاحقها ، وقدرته لا تفلتها . ( إن الله لطيف خبير ) . . تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف .

ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة ؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها . حتى يخشع القلب وينيب ، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب . وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب . بهذا الأسلوب العجيب .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

المعنى : وقال لقمان لابنه يا بني . وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى . وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه ؛ لأن الخردلة يقال : إن الحس لا يدرك لها ثقلا ، إذ لا ترجح ميزانا . أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه ؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض ، وعن اتباع سبيل من أناب إلي .

قلت : ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : ( لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك ) . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ؛ سبحانه لا شريك له . وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله ؟ فراجعه لقمان بهذه الآية . وقيل : المعنى أنه أراد الأعمال ، المعاصي والطاعات ، أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله ، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه . وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك{[12585]} إلى تبيين قدرة الله تعالى . وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف .

قوله تعالى : " مثقال حبة " عبارة تصلح للجواهر ، أي قدر حبة ، وتصلح للأعمال ، أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة . ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر : قراءة عبد الكريم الجزري{[12586]} " فتكن " بكسر الكاف وشد النون ، من الكن الذي هو الشيء المغطى . وقرأ جمهور القراء : " إن تك " بالتاء من فوق " مثقال " بالنصب على خبر كان ، واسمها مضمر تقديره : مسألتك ، على ما روي ، أو المعصية والطاعة على القول الثاني ، ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال لقمان له : " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة " الآية . فما زال ابنه يضطرب حتى مات . قاله مقاتل . والضمير في " إنها " ضمير القصة ، كقولك : إنها هند قائمة ، أي القصة إنها إن تك مثقال حبة . والبصريون يجيزون : إنها زيد ضربته ، بمعنى إن القصة . والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا . وقرأ نافع : " مثقال " بالرفع ، وعلى هذا " تك " يرجع إلى معنى خردلة ، أي إن تك حبة من خردل . وقيل : أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه ؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة ، كما قال : " فله عشر أمثالها " {[12587]} [ الأنعام : 160 ] فأنث وإن كان المثل مذكرا ؛ لأنه أراد الحسنات . ومن هذا قول الشاعر :

مشيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ *** أعاليَها مرُّ الرياح النَّوَاسِمِ{[12588]}

و " تك " ها هنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا .

قوله تعالى : " فتكن في صخرة " قيل : معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم ، أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض . وقال ابن عباس : الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض . وقيل : هي الصخرة على ظهر الحوت . وقال السدي : هي صخرة ليست في السموات والأرض ، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم ؛ لأنه قال : " أو في السموات أو في الأرض " وفيهما غنية عن قوله : " فتكن في صخرة " ، وهذا الذي قاله ممكن ، ويمكن أن يقال : قوله : " فتكن في صخرة " تأكيد ، كقوله : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان{[12589]} من علق " [ العلق : 2 ] ، وقول : " سبحان الذي أسرى بعبده{[12590]} ليلا " [ الإسراء : 1 ] .


[12585]:زيادة عن ابن عطية.
[12586]:في ج: " الجوزي".
[12587]:في ج:" الجوزي". راجع ج 7 ص 150.
[12588]:البيت لذي الرمة. و" تسفهت": استخفت، والسفه خفة العقل وضعفه و "النواسم": الضعيفة الهبوب. وصف نساء فيقول: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت.
[12589]:راجع ج 20 ص 117.
[12590]:راجع ج 10 ص 204.