البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة الله ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال : { يا بني إنها إن تك } ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة .

وقرأ نافع : مثقال ، بالرفع على { إن تك } تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ؛ وباقي السبعة : بالنصب على { إن تك } ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي التي سألت عنها .

وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر ؟ أيعلمها الله ؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله : { إن تك مثقال حبة } .

وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها ؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة .

وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضاً : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية .

وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة .

قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة ، كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي .

{ يأت بها الله } ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها .

{ إن الله لطيف } ، يتوصل علمه إلى كل خفي .

{ خبير } : عالم بكنهه .

وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها .

وبدأ له بما يتعلق به أولاً ، وهو كينونة الشيء .

{ في صخرة } : وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض .

وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض .

قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار .

قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك .

وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض . انتهى .

قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي .

وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن .

وفي قوله : { يأت بها الله } دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته .