الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

وهذه القصة كلها معترضة فيما بين كلام لقمان لابنه ، وإنما جاز الاعتراض هنا لأنها أيضا مما كان وصى به لقمان ولده ، فجعلها الله جل ذكره خبرا من عنده لنا لنتبعها ونعمل بها ، مما دل على ذلك قوله تعالى عن لقمان أنه قال لولده : { يا بني إنها إن تك مثقال حبة } أي : إن القصة التي سألتني عنها / أو المسألة .

روي أنه كان يسأل والده عن ذلك فجرى الإضمار عن سؤال ولده له .

وقيل : التقدير : إن الخطيئة أو المعصية إن تكن مثقال حبة . هذا على قراءة من نصب " مثقال حبة " فأما من رفع {[54946]} . فلا إضمار في " كان " عنده . ورفع إلقاء ثبت في " تك " حملا على المعنى لأن المقصود الحبة ، فكأنه قال : إنها إن تك حبة . يقال : عندي حبة فضة ومثقال حبة فضة بمعنى واحد ، وقد قالوا : اجتمعت أهل اليمامة {[54947]} .

فالمعنى على الرفع : إن الخطيئة إن تك حبة ، أي إن وقعت حبة من خرذل .

ويجوز أن يكون الخبر محذوفا والتقدير : إن تك حبة خرذل في موضع يأت بها الله .

والتقدير في هذا كله : زنة حبة من خير أو شر .

ثم قال : { فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض } .

روي أن ابن لقمان سأل لقمان فقال : أرأيت الحبة تكون في مثل البحر {[54948]} أمن يعلمها الله {[54949]} فأعلمه أنه يعلمها في أخفى المواضع لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في السماء {[54950]} .

وهذا مثل لأعمال العباد ، أن الله يأتي بأعمالهم يوم القيامة .

روي أن لقمان لما وعظ ابنه هذه الموعظة أتى بحبة خرذل فألقاها في اليرموك {[54951]} في عرضه ثم مكث ما شاء الله ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته . من رواية ابن وهب {[54952]} وروي عن ابن عباس [ أنه ] {[54953]} وزن رطل لحم وجعله للذر {[54954]} حتى اسود من كثرة الذر عليه ، ثم أخذه بما عليه من الذر ووزنه فلم يزد شيئا ، فقال : أيها الناس إن الله جل ذكره أراد أن يرغبكم وأن يحضكم على ثواب الآخرة وأما الذر والخرذل {[54955]} ، فلا مثاقيل لها ، ولكن في عظمة الله وقدرته وعلمه ما يعلم به مثاقيل الذر والخرذل .

ويروي أن عائشة رضي الله عنها " تصدقت بحبة عنب فقالت لها مولاتها بريرة {[54956]} يا أم المؤمنين : أي شيء حبة عنب ؟ فقالت لها عائشة : كم ترين فيها من مثقال ذرة {[54957]} " .

ويقال : إن الصخرة هنا هي الصخرة الخضراء التي على ظهر الحوت وهو النون الذي ذكره الله عز وجل في قوله : نون والقلم {[54958]} والحوت في السماء والسماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض {[54959]} .

وقال قتادة : " فتكن في صخرة " أي : في جبل من الجبال {[54960]} .

وقيل : معنى { يات بها الله } بعلمها الله {[54961]} .

{ إن الله لطيف } أي : باستخراجها .

{ خبير } أي : بمكانها ومستقرها لا يخفى عليه شيء .


[54946]:قرأ نافع بالرفع وقرأ الباقون بالنصب انظر: السبعة لابن مجاهد 513، والحجة لأبي زرعة 565، والكشف لمكي 2/188، والجامع للقرطبي 14/67
[54947]:انظر: إعراب النحاس 3/284
[54948]:في معاني الزجاج والمحرر الوجيز: "مقل البحر" أي غوصه وأعماقه وفي الجامع للقرطبي "سفل البحر"
[54949]:هكذا في الأصل وفي معاني الزجاج والجامع للقرطبي "أيعلمها"
[54950]:انظر: معاني الزجاج 4/197، والمحرر الوجيز 13/17، والكشاف للزمخشري 3/496 والجامع للقرطبي 14/67
[54951]:اليرموك: واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن، انظر: معجم البلدان 5/434
[54952]:وردت هذه الرواية في الروض المعطار 618، غير منسوبة لابن وهب.
[54953]:تكملة لازمة.
[54954]:الذر: صغار النمل، ومائة منها زنة حبة شعير، الواحدة ذرة. انظر: مادة "ذرر" في اللسان 4/304 والقاموس المحيط 2/34
[54955]:جاء في القاموس المحيط 3/367 أن الخرذل حب شجر
[54956]:هي بريرة مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق، كانت مولاة لبعض بني هلال فاشترتها عائشة ثم أعتقتها. انظر: الاستيعاب 4/1795، 3254، والإصابة 4/251، 177
[54957]:أخرجه مالك ـ بمعناه ـ في الموطأ كتاب الصدقة الحديث رقم 6
[54958]:القلم: آية 1، والآية بتمامها: {ن والقلم وما يسطرون}.
[54959]:هو قول ابن مسعود في جامع البيان 21/73، وتفسير ابن مسعود 2/490، وقد أورد الطبري هذا القول دون أن يعقب عليه.
[54960]:انظر: جامع البيان 21/73، والدر المنثور 6/522
[54961]:هو قبول السدي وأبي مالك في جامع البيان 21/73