( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : خرجوا من المسجد ، حرصًا على ذلك اللهو ، و [ تلك ] التجارة ، وتركوا الخير ، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس ، وذلك [ في ] يوم جمعة ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب ، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله .
{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منغص ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق ، فإن الله خير الرازقين ، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب .
منها : أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ، يجب عليهم السعي لها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها .
ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضتان{[1099]} يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له .
ومنها : مشروعية النداء ليوم الجمعة ، والأمر به .
ومنها : النهى عن البيع والشراء ، بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه ، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال .
ومنها : الأمر بحضور الخطبتين{[1100]} يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما .
ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [ والتجارات ] والشهوات ، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .
تم تفسير سورة الجمعة ، ولله الحمد والثناء{[1101]} .
قوله عز وجل :{ وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما } الآية ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا خالد بن عبد الله ، أنبأنا حصين عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فثار الناس إلا اثني عشر رجلاً فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } . ويحتج بهاذ الحديث من يرى الجمعة باثني عشر رجلاً ، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة ، لاشتراط هذا العدد . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط . وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " . وقال مقاتل : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة ، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه ، فقدم ذات جمعة ، وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب ، فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم بقي في المسجد ؟ فقالوا : اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء ، فأنزل الله هذه الآية . وأراد باللهو الطبل . وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق . وقوله : { انفضوا إليها } رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم . وقال علقمة : سئل عبد الله بن عمر : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً ؟ قال : أما تقرأ { وتركوك قائماً } .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد ابن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا أبو الأحوص ، عن سماك عن جابر بن سمرة قال : " كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس " . وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال : " كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً " . والخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائماً خطبتين ، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة : أن يحمد الله ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله ، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ، ويدعو للمؤمنين في الثانية ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي ، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه . وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة ، وهو مأمور بالخطبة .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مأمونة ، أنبأنا أبو سعيد أحمد من محمد بن زياد البصري بمكة ، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة ، فصلى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية : { إذا جاءك المنافقون }( المنافقون- 1 ) فقال عبيد الله : فلما انصرف مشيت إلى جنبه فقلت له : لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة ؟ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ضمرة بن سعيد المازني ، عن عبيد الله بن عتبة " أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة ؟ فقال : كان يقرأ ب { هل أتاك حديث الغاشية } " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } و{ هل أتاك حديث الغاشية } وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما " . ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت وهو : وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر ، والعدد ، والإمام ، والخطبة ، ودار الإقامة ، فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهراً . ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد ، وهو عدد الأربعين عند الشافعي ، فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة ، بل يصلي الظهر ، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا ، فأصح أقوال الشافعي : أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة ، كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها أربعاً . وفيه قول آخر : إن بقي معه اثنان أتمها جمعة . وقيل : إن بقي معه واحد أتمها جمعة ، وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة ، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعاً وإن انتقص من العدد واحد ، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة فإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعاً . قوله عز وجل : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة ، { والله خير الرازقين } لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا} الآية. قال الشافعي: فلم أعلم مخالفا أنها نزلت في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سُلَيْم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم لَهْوٌ إذا تزوج أحد من الأنصار ضربوا بالكَبَرِ فعَيَّرَهم الله بذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً اَوْ لَهْوًا اِنفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا}. (الأم: 1/199. ون أحكام الشافعي: 1/94.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا" انْفَضّوا إلَيْها "يعني أسرعوا إلى التجارة "وَتَركُوكَ قائما" يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم: وتركوك يا محمد قائما على المنبر... عن أبي مالك، قال: قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، قال: فنزلت "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما"...
وأما اللهو، فإنه اختُلف من أيّ أجناس اللهو كان، فقال بعضهم: كان كَبَرا ومزامير... عن جابر بن عبد الله، قال: كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرّون بالكبر والمزامير ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله "وَإذَا رَأَوْا تِجارَةَ أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها".
وقال آخرون: كان طبلاً... والذي هو أولى بالصواب في ذلك الخبر الذي رويناه عن جابر، لأنه قد أدرك أمر القوم ومشاهدهم.
وقوله: "قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجارَةِ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد الذي عند الله من الثواب، لمن جلس مستمعا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته يوم الجمعة إلى أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، خير له من اللهو ومن التجارة التي ينفضون إليها.
"وَاللّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ" يقول: والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإياه فاسألوا أن يوسع عليكم من فضله دون غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المعنى من هذا، والله أعلم، ليس الرؤية، وإنما المعنى منه عندنا كأنه قال: وإذا علموا، وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة، ولكن ينهى إليهم خبرها، فيعلمون بها، والله أعلم...
وقوله تعالى: {انفضوا إليها} ولم يقل إليهما، وقد ذكر شيئين، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما... لأن المقصود من خروجهم إنما كان، هو التجارة دون اللهو، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو؛ فجاز أن يكون ذكر اللهو لهذا المعنى، وإنما المقصود من ذلك التجارة... فإن قيل: كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم؟...
والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام... ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم، فكانت تلك تجارة يأملون منها منافع، لو لم يبادروا إليها ذهبت منهم. فإنما نفروا من المسجد جهلا منهم بحق الخطبة والخطاب... وقوله تعالى: {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة}...: كأنه قال: اتقوا الله فإنكم إذا اتّقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره؛ والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا...
وقوله تعالى: {والله خير الرازقين} ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ليكون هو خيرهم. ولكن المعنى من هذا في قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] وقوله: {وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45]. لأنه كان هو خير الرازقين، وأحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، لأنه لا يحكم إلا عدلا، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة. فكذلك قوله: {والله خير الرازقين}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال تعالى: {إليها} [أي: التجارة]، ولم يقل [إليه: أي اللهو] تهمماً بالأهم، إذ هي كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، وفي مصحف ابن مسعود: «ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين». وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا رأوا} أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي {تجارة} أي حمولاً هي موضع للتجارة...
{أو لهواً} أي ما يلهي عن كل نافع...
{انفضوا} أي نفروا متفرقين من العجلة...
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال: {قل} أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: {ما عند الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف {خير} ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: {من اللهو} ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: {ومن التجارة} أي وإن عظمت...
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "بينا نحن نصلي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. فنزلت: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما).. "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة. وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله (والله خير الرازقين)..
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ. ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق. فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها. وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة، وعدم النكوص من منتصف الطريق. والله المستعان
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] الآية. عُطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسُلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهواً فلا تنفضّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفراً منهم بَقُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي « الصحيح» عن جابر بن عبد الله قال: « بينما نحن نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذْ أقبلتْ عير من الشام تحمل طعاماً فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم». وفي رواية: وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} اه. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: « أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلاً».
وعن مجاهد ومقاتل: « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دِحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس». وفي رواية « أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام». وفي رواية « وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يُسبقوا إلى ذلك». وقال جابر بن عبد الله « كانت الجواري إذا نَكحن يمرّرن بالمزامير والطَّبْل فانفضّوا إليها»، فلذلك قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً}، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العِير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العِير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عِير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو...
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهواً} تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليَمْتَاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} [النساء: 83] وقوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} [التوبة: 92] الآية.
والانفضاض: مطاوع فَضَّه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا} [المنافقون: 7].
وقوله: {أو لهواً} فيه للتقسيم، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ (تجارة) لأن التجارة كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وتركوك قائماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أي تركوك قائماً على المنبر. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإِرشاد فأضاعوا علماً عظيماً بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيراً، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12].
وذيل الكلام بقوله: {والله خير الرازقين} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليماً من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، وليس غير الله قادراً على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر.
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } أي تفرقوا عنك الى التجارة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة فقدمت عير وضرب لقدومها الطبل وكان ذلك في زمان غلاء بالمدينة فتفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم الى التجارة وصوت الطبل ولم يبق معه الا اثنا عشر نفسا وقوله { وتركوك قائما } أي في الخطبة { قل ما عند الله } للمؤمنين { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } فاياه فاسألوا ولا تنفضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب الرزق
الأولى- قوله تعالى : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير{[14994]} من الشام فانفتل{[14995]} الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - في رواية أنا فيهم - فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة : " وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما " . في رواية : فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . وقد ذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت{[14996]} ، وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا . وقيل : أحد عشر رجلا . قال الكلبي : وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ، حكاه الثعلبي عن ابن عباس ، وذكر الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع{[14997]} ؛ فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم . قال : وأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . قال الدارقطني : لم يقل في هذا الإسناد " إلا أربعين رجلا " غير علي بن عاصم عن حصين ، وخالفه أصحاب حصين فقالوا : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا . وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا ) ، ذكره الزمخشري . وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا ، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد . وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال ، وعبدالله بن مسعود في إحدى الروايتين . وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر .
قلت : لم يذكر جابرا ، وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم ، والدارقطني أيضا . فيكونون ثلاثة عشر . وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر . وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا ، فقال : حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة{[14998]} ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدِّفاف ، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ؛ فأنزل الله عز وجل : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة . وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده . فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج ، فأنزل الله تعالى : " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا{[14999]} " [ النور : 63 ] الآية . قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحا . وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات ، كل مرة عير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة . وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارته ، ونظرهم إلى العير تمر لهو لا فائدة فيه ، إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على غير ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته ، غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل . وجاء عن وسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه ) . الحديث . وقد مضى في سورة " الأنفال{[15000]} " فلله الحمد . وقال جابر بن عبدالله : كانت الجواري إذا نكحن يمررن{[15001]} بالمزامير والطبل فانفضوا إليها ، فنزلت . وإنما رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم . وقرأ طلحة بن مصرف " وإذا رأوا التجارة واللهو انفضوا إليها " . وقيل : المعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه فحذف لدلالته . كما قال :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأيُ مختلفُ
وقيل : الأجود في العربية أن يجعل الراجع في الذكر للآخر من الاسمين .
الثانية- واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال ، فقال الحسن : تنعقد الجمعة باثنين . وقال الليث وأبو يوسف ، تنعقد بثلاثة . وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة : بأربعة . وقال ربيعة : باثني عشر رجلا . وذكر النجاد أبو بكر أحمد بن سليمان{[15002]} قال : حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق ، حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا المعافى بن عمران حدثنا معقل بن عبيدالله عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة ، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة . وقال الشافعي : بأربعين رجلا . وقال أبو إسحاق الشيرازي في ( كتاب التنبيه على مذهب الإمام الشافعي ) : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين ، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة ، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة وجبت عليهم الجمعة . ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول ولم يشترطا هذه الشروط . وقال مالك : إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد . وكتب عمر بن عبد العزيز : أي قرية اجتمع فيها ثلاثون بيتا فعليهم الجمعة . وقال أبو حنيفة : لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ، لا يجوز لهم إقامتها فيها . واشترط في وجوب الجمعة وانعقادها : المصر الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري . واحتج بحديث علي : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ورفقة تعينهم{[15003]} . وهذا يرده حديث ابن عباس ، قال : إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثي . وحجة الإمام الشافعي في الأربعين حديث جابر المذكور الذي خرجه الدارقطني . وفي سنن ابن ماجه والدارقطني أيضا ودلائل النبوة للبيهقي عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان ، صلى على أبي أمامة واستغفر له - قال - فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان بالجمعة إلا فعل ذلك ، فقلت له : يا أبةِ ، استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ، ما هو ؟ قال : أي بني ، هو أول من جمع بالمدينة في هَزْم{[15004]} من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخَضِمات ، قال : قلت : كم أنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا . وقال جابر بن عبدالله : مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا ، وذلك أنهم جماعة . خرجه الدارقطني .
وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد : قرئ على عبدالملك بن محمد الرقاشي وأنا أسمع حدثني رجاء بن سلمة قال حدثنا أبي قال حدثنا روح بن غطيف الثقفي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال : لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قرئ على عبدالملك بن محمد وأنا أسمع قال حدثنا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على من دون ذلك ) . قال ابن المنذر : وكتب عمر بن عبدالعزيز : أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليصلوا الجمعة . وروى الزهري عن أم عبدالله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة ) . يعني بالقرى : المدائن . لا يصح هذا عن الزهري . في رواية ( الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) . الزهري{[15005]} لا يصح سماعه من الدوسية . والحكم{[15006]} هذا{[15007]} متروك .
الثالثة- وتصح الجمعة بغير إذن الإمام وحضوره . وقال أبو حنيفة : من شرطها الإمام أو خليفته . ودليلنا أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه . وروي أن عليا صلى الجمعة يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه . وروي أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان . وقال مالك : إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها ، وليها وال أو لم يلها .
الرابعة- قال علماؤنا : من شرط أدائها المسجد المسقف . قال ابن العربي : ولا اعلم وجهه .
قلت : وجهه قوله تعالى : " وطهر بيتي للطائفين{[15008]} " [ الحج : 26 ] ، وقوله : " في بيوت أذن الله أن ترفع{[15009]} " [ النور : 36 ] . وحقيقة البيت أن يكون ذا حيطان وسقف . هذا العرف ، والله أعلم .
الخامسة- قوله تعالى : " وتركوك قائما " شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب . قال علقمة : سئل عبدالله أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا ؟ فقال : أما تقرأ " وتركوك قائما " . وفي صحيح مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبدالرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال : انظروا إلى هذا الخبيث ، يخطب قاعدا وقال الله تعالى : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما " . وخرج عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب ، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب ، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة . وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء . وقال أبو حنيفة : ليس القيام بشرط فيها . ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية . وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا . وقيل : إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته . رواه جابر بن سمرة . ورواه ابن عمر في كتاب البخاري .
السادسة- والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها ، وهو قول جمهور العلماء . وقال الحسن : هي مستحبة . وكذا فال ابن الماجشون : إنها سنة وليست بفرض . وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر ، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر . والدليل على وجوبها قوله تعالى : " وتركوك قائما " . وهذا ذم ، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة .
السابعة- ويخطب متوكئا على قوس أو عصا . وفي سنن ابن ماجه قال حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا .
الثامنة- ويسلم إذا صعد المنبر على الناس عند الشافعي وغيره . ولم يره مالك . وقد روى ابن ماجه من حديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم .
التاسعة : فإن خطب على غير طهارة الخطبة كلها أو بعضها أساء عند مالك ، ولا إعادة عليه إذا صلى طاهرا . وللشافعي قولان في إيجاب الطهارة ، فشرطها في الجديد ولم يشترطها في القديم . وهو قول أبي حنيفة .
العاشرة- وأقل ما يجزي في الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله ويقرأ آية من القران . ويجب في الثانية أربع كالأولى ، إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية في الأولى الدعاء ، قاله أكثر الفقهاء . وقال أبو حنيفة : لو اقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزأه . وعن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله ، وارتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل فصلى . وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد . وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما تناوله اسم خطبة . وهو قول الشافعي . قال أبو عمر بن عبدالبر : وهو أصح ما قيل في ذلك .
الحادية عشرة- في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر " ونادوا يا مالك{[15010]} " [ الزخرف : 77 ] . وفيه عن عمرة بنت عبدالرحمن عن أخت لعمرة قالت : ما أخذت " ق والقرآن المجيد " [ ق : 1 ] إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة . وقد مضى في أول{[15011]} " ق " . وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال : كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ( الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة . من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى . نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه ، فإنما نحن به وله ) . وعنه قال : بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب : ( كل ما هو آت قريب ، و{[15012]} لا بعد لما هو آت . لا يعجل الله لعجلة أحد{[15013]} ، ولا يَخِفّ لأمر الناس . ما شاء الله لا ما شاء الناس . يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ، ما شاء الله كان ولو كره الناس . ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله . لا يكون شيء إلا بإذن الله جل وعز . وقال جابر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه : ( أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم . إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه . فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الممات . والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار . أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ) . وقد تقدم ما خطب به عليه الصلاة والسلام أول جمعة عند قدومه المدينة .
الثانية عشرة- السكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنة . والسنة أن يسكت لها من يسمع ومن لم يسمع ، وهما إن شاء الله في الأجر سواء . ومن تكلم حينئذ لغا ، ولا تفسد صلاته بذلك . وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) . الزمخشري : وإذا قال المنصت لصاحبه صه ، فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغيا ؟ نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام .
الثالثة عشرة- ويستقبل الناس الإمام إذا صعد المنبر ؛ لما رواه أبو داود مرسلا عن أبان بن عبدالله قال : كنت مع عدي بن ثابت يوم الجمعة ، فلما خرج الإمام - أو قال صعد المنبر - استقبله وقال : هكذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه ، فزاد في الإسناد : عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم . قال ابن ماجه : أرجو أن يكون متصلا . قلت : وخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن الفضل الخراساني عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا . تفرد به محمد بن الفضل بن عطية عن منصور .
الرابعة عشرة- ولا يركع من دخل المسجد والإمام يخطب عند مالك رحمه الله . وهو قول ابن شهاب رحمه الله وغيره . وفي الموطأ عنه : فخروج الإمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام . وهذا مرسل . وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز{[15014]} فيهما ) . وهذا نص في الركوع . وبه يقول الشافعي وغيره .
الخامسة عشرة . . . . {[15015]}ابن عون عن ابن سيرين قال : كانوا يكرهون النوم والإمام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا . قال ابن عون : ثم لقيني بعد ذلك فقال : تدري ما يقولون ؟ قال : يقولون مثلهم كمثل سرية أخفقوا ، ثم قال : هل تدري ما أخفقوا ؟ لم تغنم شيئا . وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه ، وليتحول صاحبه إلى مقعده ) .
السادسة عشرة : نذكر فيها من فضل الجمعة وفرضيتها ما لم نذكره . روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : ( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه ) وأشار بيده يقللها{[15016]} . وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة ) . وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ علينا ذات يوم ، فلما خرج قلنا : احتبست ! قال : ( ذلك أن جبريل أتاني بكهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل ؟ قال : هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطؤوها وهداكم الله لها . قلت : يا جبريل ما هذه النكتة السوداء ؟ قال : هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله ، وإنه خير الأيام عند الله وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد ) . وذكر الحديث . وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام قالا : حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبى عبيده بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب{[15017]} من كافور أبيض ، فيكونون منه في القرب - قال ابن المبارك - على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا . وقال يحيى بن سلام : كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا . وزاد فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك . قال يحيى : وسمعت غير المسعودي يزيد فيه : وهو قوله تعالى : " ولدينا مزيد{[15018]} " [ ق : 35 ] .
قلت : قوله " في كثيب " يريد أهل الجنة . أي وهم على كثيب ، كما روى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه وفيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات سمعها الأولون والآخرون ، فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد ما شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله لهم في كل جمعة ) ذكره يحيى بن سلام . وعن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم{[15019]} هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة ) ذكره الثعلبي . وخرج القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبدالله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبدالله بن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها ويبعث الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها ، ألوانهم كالثلج بياضا ، وريحهم يسطع كالمسك ، يخوضون في جبال الكافور ، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون{[15020]} ) . وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ( الجمعة إلى الجمعة كفارة ما بينهما ما لم تغش الكبائر ) خرجه مسلم بمعناه .
وعن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ) . وعن جابر بن عبدالله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا . وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا . وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتؤجروا . واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره . ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له . ألا ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه . ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه ) . وقال ميمون بن أبي شيبة : أردت الجمعة مع الحجاج فتهيأت للذهاب ، ثم قلت : أين اذهب أصلي خلف هذا الفاجر ؟ فقلت مرة : أذهب ، ومرة لا أذهب ، ثم أجمع رأيي على الذهاب ، فناداني مناد من جانب البيت " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " [ الجمعة : 9 ] .
السابعة عشرة- قوله تعالى : " قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة " فيه وجهان : أحدهما : ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم . الثاني : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم . وقرأ أبو رجاء العطاردي : " قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا " . " والله خير الرازقين " فمنه فاطلبوا ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة .
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب : هذه أوامرنا الشريفة{[65376]} وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة ، فما لهم إذا نودي لها{[65377]} توانى{[65378]} بعضهم في الإقبال إليها ، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها{[65379]} ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا ، عطف عليه قوله : { وإذا رأوا } أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح ، والاشتغال بشأنها العالي { تجارة } أي حمولاً هي{[65380]} موضع للتجارة . ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا{[65381]} يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال : { أو لهواً } أي ما يلهي عن كل نافع .
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً{[65382]} على حال سيئ ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة ، والفضاض ما تفرق من الشيء عند الكسر ، ويقال :فض الفم والطلع : كسرهما ، فكيف{[65383]} إذا كانت علته قبيحة ، قال تعالى معبراً به : { انفضوا } أي نفروا متفرقين من العجلة .
ولما كان سبب{[65384]} نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد ، فقدم دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة ، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح ، وكان قصد بعض المنفضين العير ، وبعضهم ما قارنها من اللهو ، ولكن قاصد التجارة هو{[65385]} الأكثر ، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب{[65386]} عنها : { إليها } وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع{[65387]} والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله{[65388]} ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة ، كان الذم لقصد اللهو من باب الأولى .
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال : { وتركوك } أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً ، قال جابر رضي الله عنه : أنا أحدهم ، ودل على مشروعية القيام بقوله : { قائماً } فالواجب خطبتان : قائماً يفصل بينهما بجلوس ، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله تعالى ، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه ، ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت{[65389]} وهو وقت الظهر ، والعدد وهو الأربعون ، والإمام والخطبة{[65390]} و{[65391]}دار الإقامة ، فإن فقد شرط وجبت{[65392]} الظهر ، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام ، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة ، فإن{[65393]} انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت .
ولما كان هذا فعل من سفلت{[65394]} همته عن سماع كلام الحق من الحق ، أمره{[65395]} صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال : { قل } أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه : { ما عند الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة ، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير ، الناهي عن كل شر{[65396]} ، المفيد لتزكية الباطن وتقويم{[65397]} الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا{[65398]} يدخل تحت الوصف { خير } ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها ، قدم هنا ما كانت سبباً له{[65399]} {[65400]}ليصير كل{[65401]} منهما مقصوداً بالنهي فقال : { من اللهو } ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد : { ومن التجارة } أي وإن عظمت .
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة {[65402]}وإذا أعطاه{[65403]} لا يعطيه إلا من يحبه قال : { والله } أي ذو الجلال والإكرام وحده { خير الرازقين * } لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي ، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد ، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً ، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو{[65404]} خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن ، روى صاحب الفردوس{[65405]} عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قال يوم الجمعة " اللهم أغنني بحلالك عن حرامك {[65406]}وبطاعتك عن معصيتك{[65407]} وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى " وأصل الحديث أخرجه أحمد{[65408]} والترمذي{[65409]} - وقال حسن - عن علي رضي الله عنه ، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فأقبلوا على متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم و{[65410]}ألزموا هديه واستمسكوا بغرزه{[65411]} تنالوا خيري الدارين بسهولة ، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من{[65412]} شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه ، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو{[65413]} عين تنزيه الله وتسبيحه
{ يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة }[ آل عمران : 164 ] يزكيهم ربهم ويرزقهم{[65414]} من فضله{[65415]} إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب{[65416]} .
فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه ، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه
{ يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة }[ آل عمران : 164 ] يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب .