وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه ، تجيء الفقرة التالية في الوصية ، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل . ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة ، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح ، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان ، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، فتكن في صخرة ، أو في السماوات ، أو في الأرض ، يأت بها الله . إن الله لطيف خبير ) . .
وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله ، وعن قدرة الله سبحانه ، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور . وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء ، العميقة الإيقاع . . حبة من خردل . صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة . ( فتكن في صخرة ) . . صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها . ( أو في السماوات ) . . في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة . ( أو في الأرض )ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين . ( يأت بها الله ) . . فعلمه يلاحقها ، وقدرته لا تفلتها . ( إن الله لطيف خبير ) . . تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف .
ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة ؛ ويتملى علم الله الذي يتابعها . حتى يخشع القلب وينيب ، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب . وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب . بهذا الأسلوب العجيب .
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أي في وسطها { أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } في أي جهة من جهاتهما { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } لسعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار .
والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة اللّه ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قَلَّ أو كَثُرَ .
ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة ، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها ، وأنها في علم الله سواء ، حسن جداً{[53897]} الرجوع إلى تمام بيان حكمته{[53898]} ، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد ، وعبر بمثقال الحبة{[53899]} لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال ، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه : { يا بني } متحبباً مستعطفاً ، مصغراً{[53900]} له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً : { إنها } أي العمل ، وأنث لأنه في مقام التقليل{[53901]} والتحقير ، والتأنيث أولى بذلك ، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية و{[53902]}الحسنة والسيئة{[53903]} { إن تك } وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء بما ينيل المفاز ، والدلالة على أقل الكون وأصغره { مثقال } أي وزن ، ثم حقرها بقوله : { حبة } وزاد في ذلك بقوله : { من خردل } هذا على قراءة الجمهور{[53904]} بالنصب ، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره - بما أشار إليه التأنيث .
ولما كان قد عرف أن{[53905]} السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها : { فتكن } إشارة إلى ثباتها في مكانها . وليزداد تشوف{[53906]} النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم{[53907]} كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف{[53908]} النون وإثبات هذه ، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز : { في صخرة } أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها .
ولما أخفى وضيق{[53909]} ، أظهر ووسع ، ورفع وخفض ، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال : { أو في السماوات } أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، وأعاد " أو " {[53910]} نصاً على إرادة كل منهما على حدته ، والجار تأكيداً للمعنى فقال : { أو في الأرض } أي{[53911]} كذلك ، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما{[53912]} ، وعبر له{[53913]} بالاسم الأعظم لعلو{[53914]} المقام فقال : { يأتِ بها الله } بعظم جلاله ، وباهر كبريائه وكماله ، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها ، فيحاسب عليها{[53915]} ، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن{[53916]} إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم{[53917]} يصحبها التوفيق : { إنّ الله } فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم { لطيف } أي عظيم المتّ{[53918]} بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أي أمر أراده حتى بضد{[53919]} الطريق الموصل فيما يظهر للخلق { خبير * } بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء{[53920]} ، ولا يفوته أمر .
قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 16 ) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( 17 ) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 18 ) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .
هذه جملة وصايا جيدة وسديدة أخبر الله بها عن لقمان ؛ إذ أوصى بها ابنه ؛ لتكون تذكرة وعبرة للناس . لا جرم أنها وصايا نافعة وجليلة ومؤثرة ، حقيقة بدوام التفكر والتدبر .
والضمير في قوله : { إنها } يراد المعصية والخطيئة . يعني إن تكن المعصية في بساطتها في وزن الحبة من الخردل وهي غاية الصغر { فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } يعني إن تكن هذه الخطيئة الصغيرة التي في وزن الخردلة مخبوءة في جوف صخرة لا يدري بها أحد من الخلق ، أو تكن مستورة في أطواء السماء أو في طباق الأرض أو مجاهل الفضاء { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } أي يظهرها الله يوم القيامة حينما يضع الموازين القسط ، فيجازي كلا من عباده بما عمل إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } الله لطيف لا تخفى عليه الخوافي ، مهما دقت وصغرت . نقول : لطف الشيء أي صغر فهو لطيف{[3650]} و { خَبِيرٌ } أي عليم بكل شيء .