بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة ، لا في مشاهد الكون من حولهم ، ولكن في ذوات أنفسهم ، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض ؛ ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى . في ترابط بين الحياتين وثيق :
الله الذي خلقكم من ضعف ، ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة - يخلق ما يشاء - وهو العليم القدير . ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . كذلك كانوا يؤفكون . وقال الذين أوتوا العلم والإيمان : لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنكم كنتم لا تعلمون . فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون . .
إنها جولة مديدة ، يرون أوائلها في مشهود حياتهم ؛ ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم . وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
( الله الذي خلقكم من ضعف ) . . ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف إنما قال : ( خلقكم من ضعف )كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم . . والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان .
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين . ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف . ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين .
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان . الطين . الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية ، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة .
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات ، والميول والشهوات ، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات ، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام .
( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ) . . قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف . قوة في الكيان الجسدي ، وفي البناء الإنساني ، وفي التكوين النفسي والعقلي .
( ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ) . . ضعفا في الكيان الإنساني كله . فالشيخوخة انحدار إلى الطفولةبكل ظواهرها . وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل ، ولا يجد من إرادته عاصما . ومع الشيخوخة الشيب ، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها .
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء ، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر ، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب . إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة ، تخلق ما تشاء ، وتقدر ما تشاء ، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره ، وفق علم وثيق وتقدير دقيق : ( يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) .
{ 54 } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } .
يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته ، ابتدأ خلق الآدميين من ضعف وهو الأطوار الأول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في الأرحام إلى أن ولد ، وهو في سن الطفولية وهو إذ [ ص 645 ] ذاك في غاية الضعف وعدم القوة والقدرة . ثم ما زال اللّه يزيد في قوته شيئا فشيئا حتى بلغ سن الشباب واستوت قوته وكملت قواه الظاهرة والباطنة ، ثم انتقل من هذا الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم .
{ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } بحسب حكمته . ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين وأنه ليس له من نفسه إلا النقص ، ولولا تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة ولو استمرت قوته في الزيادة لطغى وبغى وعتا .
وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء ، ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ولا ضعف ولا نقص بوجه من الوجوه .
قوله تعالى : " الله الذي خلقكم من ضعف " ذكر استدلالا آخر على قدرته في نفس الإنسان ليعتبر . ومعنى : " من ضعف " من نطفة ضعيفة . وقيل : " من ضعف " أي في حال ضعف ، وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر . " ثم جعل من بعد ضعف قوة " يعني الشبيبة . " ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة " يعني الهرم . وقرأ عاصم وحمزة : بفتح الضاد فيهن ، الباقون بالضم ، لغتان ، والضم لغة النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الجحدري : " من ضعف ثم جعل من بعد ضعف " بالفتح فيهما ؛ " ضعفا " بالضم خاصة . أراد أن يجمع بين اللغتين . قال الفراء : الضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم . الجوهري : الضعف والضعف : خلاف القوة . وقيل : الضعف بالفتح في الرأي ، وبالضم في الجسد ؛ ومنه الحديث في الرجل الذي كان يخدع في البيوع : ( أنه يبتاع وفي عقدته{[12537]} ضعف ) . " وشيبة " مصدر كالشيب ، والمصدر يصلح للجملة ، وكذلك القول في الضعف والقوة . " يخلق ما يشاء " عني من قوة وضعف . " وهو العليم " بتدبيره . " القدير " على إرادته . وأجاز النحويون الكوفيون " من ضَعَف " بفتح العين ، وكذا كل ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا .
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات ، تارة في الأجسام ، وتارة في القوى ، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات ، وختم بأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته ، فلانت للأدلة عريكته ، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم{[53455]} فكرته ورويته ، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة ، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته{[53456]} إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف ، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولابد وهم ينكرونها ، فكأنهم ينكرونه ، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر : { الله } أي الجامع لصفات الكمال وحده{[53457]} .
ولما كان تعريف الموصول{[53458]} ظاهراً غير ملبس ، عبر به دون اسم الفاعل فقال{[53459]} : { الذي خلقكم } أي من العدم . ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف ، وأضعف{[53460]} ما يكون في أوله قال{[53461]} : { من ضعف } أي مطلق - بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم{[53462]} بخلاف عن حفص بفتح الضاد ، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم ، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار ، ثم ما{[53463]} شاء الله من سن الصبي .
ولما كانت تقوية المعنى{[53464]} الضعيف مثل إحياء الجسد الميت قال : { ثم جعل } عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب ، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال : { من بعد } ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول ، أظهر ولم يضمر فقال : { ضعف قوة } بكبر العين والأثر{[53465]} من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً ، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين و{[53466]} أربعين عاماً فلو لا{[53467]} تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه{[53468]} مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه { ثم جعل من بعد قوة } في شباب تقوى به القلوب ، وتحمى له الأنوف ، وتشمخ من جرائه{[53469]} النفوس { ضعفاً } رداً لما لكم إلى أصل حالكم .
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال : { وشيبة } وهي{[53470]} بياض في الشعر ناشىء{[53471]} من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم ، وينقص الهمة والعلم ، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين ، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين ، وهو أول سن الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى .
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها{[53472]} ، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي ، أنتج ذلك كله{[53473]} - ولا بد - التصرف{[53474]} بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال : { يخلق ما يشاء } أي من هذا وغيره { وهو العليم } أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو{[53475]} إعدامه { القدير* } فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه ، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً ، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها ، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح ، وعبارة بعد إشارة .