( ولقد آتينا داود منا فضلاً . يا جبال أوبي معه والطير . وألنا له الحديد أن اعمل سابغات ، وقدّر في السرد ، واعملوا صالحاً . إني بما تعملون بصير ) . .
وداود عبد منيب ، كالذي ختم بذكره الشوط الأول : ( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . . والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة ؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل . ثم يبين هذا الفضل :
( يا جبال أوبي معه والطير ) . .
وتذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتاً جميلاً خارقاً في الجمال ؛ كان يرتل به مزاميره ، وهي تسابيح دينية ، ورد منها في كتاب " العهد القديم " ما الله أعلم بصحته . وفي الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سمع صوت أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته . ثم قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد أوتي هذا مزماراً من زمامير آل داود " .
والآية تصور من فضل الله على داود - عليه السلام - أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات ؛ فاتصلت حقيقتها بحقيقته ، في تسبيح بارئها وبارئه ؛ ورجّعت معه الجبال والطير ، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز ، حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة ؛ تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع ، وبين كائن من خلق الله وكائن ؛ وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة ، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق ؛ فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق ، وتتلاقى في نغمة واحدة ، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ، يزيح عنه حجاب كيانه المادي ، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود ، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود .
وحين انطلق صوت داود - عليه السلام - يرتل مزاميره ويمجد خالقه ، رجّعت معه الجبال والطير ، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد ، المتجهة إلى بارئه الواحد . . وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر ، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته !
وهو طرف آخر من فضل الله عليه . وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر . فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلاً للطرق ، إنما كان - والله أعلم - معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة . وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلاً من الله يذكر . ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات ، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف .
{ 10 - 11 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
أي : ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ، داود عليه الصلاة والسلام ، وآتيناه فضلا من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والنعم الدينية والدنيوية ، ومن نعمه عليه ، ما خصه به من أمره تعالى الجمادات ، كالجبال والحيوانات ، من الطيور ، أن تُؤَوِّب معه ، وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها ، مجاوبة له ، وفي هذا من النعمة عليه ، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده ، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ، تتجاوب بتسبيح ربها ، وتمجيده ، وتكبيره ، وتحميده ، كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى .
ومنها : أن ذلك - كما قال كثير من العلماء ، أنه طرب لصوت داود ، فإن اللّه تعالى ، قد أعطاه من حسن الصوت ، ما فاق به غيره ، وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب ، طرب كل من سمعه ، من الإنس ، والجن ، حتى الطيور والجبال ، وسبحت بحمد ربها .
ومنها : أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ، لأنه سبب ذلك ، وتسبح تبعا له .
ومن فضله عليه ، أن ألان له الحديد ، ليعمل الدروع السابغات ،
وعلمه تعالى كيفية صنعته ، بأن يقدره في السرد ، أي : يقدره حلقا ، ويصنعه كذلك ، ثم يدخل بعضها ببعض .
قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله ، أمره بشكره ، وأن يعملوا صالحا ، ويراقبوا اللّه تعالى فيه ، بإصلاحه وحفظه من المفسدات ، فإنه بصير بأعمالهم ، مطلع عليهم ، لا يخفى عليه منها شيء .
قوله تعالى : " ولقد آتينا داود منا فضلا " بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا ، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات ، وأحللنا بمن خالفهم العقاب . " آتينا " أعطينا . " فضلا " أي أمرا فضلناه به على غيره . واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال : الأول : النبوة . الثاني : الزبور . الثالث : العلم ، قال الله تعالى : " ولقد آتينا داود وسليمان علما " {[12960]} [ النمل : 15 ] . الرابع - القوة ، قال الله تعالى : " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " {[12961]} [ ص : 17 ] . الخامس : تسخير الجبال والناس ، قال الله تعالى : " يا جبال أوبي معه " {[12962]} . السادس : التروية ، قال الله تعالى : " فغفرنا له ذلك " {[12963]} [ ص : 25 ] . السابع : الحكم بالعدل ، قال الله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " {[12964]} [ ص : 26 ] الآية . الثامن : إلانة الحديد ، قال تعالى : " وألنا له الحديد " {[12965]} . التاسع : حسن الصوت ، وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن . وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه ، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى : " يزيد في الخلق ما يشاء " {[12966]} [ فاطر : 1 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : ( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) . قال العلماء : المزمار والمزمور الصوت الحسن ، وبه سميت آلة الزمر مزمارا . وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع . وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب{[12967]} والحمد لله .
قوله تعالى : " ياجبال أوبي معه " أي وقلنا يا جبال أوبي معه ، أي سبحي معه ، لأنه قال تبارك وتعالى : " إنا سخرنا الجبال معه " يسبحن بالعشي والإشراق " [ ص : 18 ] . قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة ، ومعنى تسبيح الجبال : هو أن الله تعالى خلق ، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام . وقيل : المعنى سيري معه حيث شاء ، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل . قال ابن مقبل :
لحقنا بحي أوَّبُوا السير بعدما *** دفعنا شُعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما : " أوبي معه " أي رجعي معه ، من آب يؤوب إذا رجع ، أوبا وأوبة وإيابا . وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار ، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل . وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك ، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه . فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة ، فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة{[12968]} ، فإذا دخلت الفترة اهتاج ، أي ثار وتحرك ، وقوي بمساعدة الجبال والطير . وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته ، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته . " والطير " بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك ، عطفا على لفظ الجبال ، أو على المضمر في " أوبي " وحسنه الفصل بمع . الباقون بالنصب عطفا على موضع " يا جبال " أي نادينا الجبال والطير ، قال سيبويه . وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير . وقال الكسائي : هو معطوف ، أي وآتيناه الطير ، حملا على " ولقد آتينا داود ما فضلا " . النحاس : ويجوز أن يكون مفعولا معه ، كما تقول : استوى الماء والخشبة . وسمعت الزجاج يجيز : قمت وزيدا ، فالمعنى أوبي معه ومع الطير .
قوله تعالى : " وألنا له الحديد " قال ابن عباس : صار عنده كالشمع . وقال الحسن : كالعجين ، فكان يعمله من غير نار . وقال السدي : كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء ، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة . وقاله مقاتل . وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل ، ثمنها ألف درهم . وقيل : أعطي قوة يثني بها الحديد ، وسبب ذلك أن داود عليه السلام ، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا ، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء ، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له :( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟ فقال له الملك ( نعم العبد لولا خلة فيه ) قال داود : ( وما هي ) ؟ قال :( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) . فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء{[12969]} ، فألان له الحديد فصنع الدروع ، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم ، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله ، وتصدق على الفقراء والمساكين ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين ، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح . ويقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف . والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب . ودرع المرأة مذكر .
مسألة : في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم ، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . وقد مضى هذا في " الأنبياء " مجودا والحمد لله .
ولما أشار سبحانه بهذا الكلام الذي دل فيه على نفوذ الأمر إلى أنه تارة يعدل وتارة يفضل ، وكان الفضل أكثر استجلاباً لذوي الهمم العلية والأنفس الأبية ، بدأ به في عبد من رؤوس المنيبين على وجه دال على البعث بكمال التصرف في الخافقين وما فيهما بأمور شوهدت لبعض عبيده تارة بالعيان وتارة بالآذان ، أما عند أهل الكتاب فواضح ، وأما عند العرب فبتمكينهم{[56443]} من سؤالهم فقد كانوا يسألونهم عنه صلى الله عليه وسلم وقال أبو حيان{[56444]} : إن بعض ذلك طفحت به أخبارهم ونطقت به أشعارهم{[56445]} ، فقال تعالى مقسماً تنبيهاً على أن إنكارهم للبعث إنكار لما يخبر به من المعجزات ، عاطفاً على ما تقديره : فلقد آتينا هذا الرجل الذي نسبتموه إلى الكذب أو الجنون منا فضلاً بهذه الأخبار المدلول عليها بمعجز القرآن فيا بعد ما بينه وبين{[56446]} ما نسبتموه إليه : { ولقد } أي{[56447]} وعزتنا وما ثبت لنا من الإحاطة بصفات الكمال بالاتصاف بالحمد لقد{[56448]} { آتينا } أي أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية{[56449]} المكنة بما لنا من العظمة { داود } .
ولما كان المؤتى قد تكون واسطة لمن منه الإيتاء ، بين أن الأمر ليس إلا منه فقال : { منا فضلاً } ودل على أن التنوين للتعظيم{[56450]} وأنه لا يتوقف تكوين{[56451]} شيء على غير إرادته بقوله ، منزلاً الجبال منزلة العقلاء الذين يبادرون إلى{[56452]} امتثال أوامره ، تنبيهاً على كمال قدرته وبديع تصرفه في الأشياء كلها{[56453]} جواباً لمن كأنه قال : ما ذلك الفضل ؟ مبدلاً من { أتينا } { يا } أي قلنا لأشد الأرض : يا { جبال أوبي } {[56454]}أي رجعي{[56455]} التسبيح وقراءة الزبور وغيرهما من ذكر الله { معه } أي كلما سبح ، فهذه آية أرضية مما هو{[56456]} أشد الأرض بما هو وظيفة العقلاء ، ولذلك عبر فيه بالأمر دلالة على عظيم القدرة .
ولما كانت الجبال أغلظ الأرض وأثقلها ، وكان المعنى : دعونا الجبال للتأويب معه ، فبادرت الإجابة لدعائنا ، لما تقدم من أنها من جملة من أبى أن يحمل الأمانة ، عطف على ذلك أخف الحيوان وألطفه ، ليكون آية سماوية ، على أنه يفعل في السماء ما يشاء ، فإنه لو أمات الطائر في جو السماء لسقط ، ولا فرق في ذلك بين عال وعال ، فقال : { والطير } أي دعوناها أيضاً ، فكانت ترجع معه الذكر فدل{[56457]} قرانها بالطير على ذكرها حقيقة كذكر الطير دفعاً لتوهم من يظنه{[56458]} رجع الصدا ، وقراءة يعقوب بالرفع عطف{[56459]} على لفظ " جبال " وقراءة غيره عطف{[56460]} على موضعه ، أو تكون الواو بمعنى مع أو بتقدير فعل من معنى ما مضى كسخرنا ، قال وهب بن منبه : كان يقول للجبال : سبحي ، وللطير : أجيبي ، ثم يأخذ وهو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن ، فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب{[56461]} منه ، وذلك كما كان الحصى يسبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكما كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل{[56462]} ، وكما كان الحجر يسلم عليه ، وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه ، وحنين الجذع مشهور ، و {[56463]}كما كان الضب{[56464]} يشهد له والجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه ونحو ذلك ، وكما جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها .
ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها . ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء فقال : { وألنا له الحديد } أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة ،