ولقد كانوا - مع هذا - يتهمون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه بالضلال ؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا ! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان . ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال :
( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ? ) . . والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله ، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه ، ثم ينهض ليعثر من جديد ! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر ، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول ! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات ، وهدفه أمامه واضح مرسوم ? !
إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه ، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته ، لأنه يعترضها في سيره ، ويتخذ له مسارا غير مسارها ، وطريقا غير طريقها ، فهو أبدا في تعثر ، وأبدا في عناء ، وأبدا في ضلال .
والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله ، الممتع بهداه ، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور ، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد . وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء .
إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد . وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال . .
فأيهما أهدى ? وهل الأمر في حاجة إلى جواب ? إنما هو سؤال التقرير والإيجاب !
ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك . . مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق . ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات ، مستقيمة الخطوات ، في طريق مستقيم ، لهدف مرسوم .
إنه تجسيم الحقائق ، وإطلاق الحياة في الصور ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير . .
{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
أي : أي الرجلين أهدى ؟ من كان تائها في الضلال ، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلًا ، والباطل حقًا ؟ ومن كان عالمًا بالحق ، مؤثرًا له ، عاملًا به ، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله ؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين ، يعلم الفرق بينهما ، والمهتدي من الضال منهما ، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال .
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة ، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين : { أفمن يمشي } أي على وجه{[67037]} الاستمرار { مكباً } أي داخلاً بنفسه في الكب وصائرا إليه ، وهو السقوط { على وجهه } وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج{[67038]} معلول ، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه ، واضطراب في عقله ورأيه ، فهو كل حين يعثر فيخر{[67039]} على وجهه ، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن{[67040]} لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك ، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار{[67041]} المشاق عليه زاجراً{[67042]} له{[67043]} عن السبب الموقع له فيه ، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك .
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال : { أهدى } أي أشد هداية { أمّن يمشي } دائماً مستمراً { سوياً } قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار ، لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله { على صراط } أي طريق موطأ واسع{[67044]} مسلوك {[67045]}سهل قويم{[67046]} { مستقيم * } أي هو في غاية القوم . هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ ، والأول مثل الكافر ، حاله في سيره إلى الله حال المكب ، أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة{[67047]} على وجهه ، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به ، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات{[67048]} ، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة ، فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار ، فيظهر له سبحانه ما أبطن له{[67049]} اليوم ، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما ، والآية من الاحتباك : ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم .
قوله : { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } . ذلك مثل ضربه الله للكافر والمؤمن . فالأول مكبّ على وجهه يمشي معتسفا في مكان مضطرب غير مستو ولا مستقيم ، فيه انخفاض وارتفاع . فما يمشي فيه ساعة حتى يعثر ويخرّ على وجهه ساقطا . وهذا نقيض الثاني الذي يمشي سويا ، أي قائما معتدلا سالما من التعثر والخرور ، أو السقوط على وجهه . فهو مستقيم في مشيه ، غير معتسف ولا مضطرب ولا متعثر . أو أنه يراد بالأول ، الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق ، فهو بذلك يعتسف في مشيه ويتخبط وينكب على وجهه ساقطا . وهو ليس كالثاني السوي البصير ، الذي يمشي في طريقه ضالا هائما متلجلجا .
وتلك هي حال الكافرين في كل زمان . فإنهم ضالون يساقون في حياتهم الدنيا إلى ما تسوّله الأهوال والشهوات . فما يطغى على أنفسهم وطبائعهم إلا الأثرة والطمع والغريزة . أولئك هم الضالون من الناس الذين تسوقهم الشياطين إلى الضلال والمفاسد والشرور وظلم الإنسان للإنسان ، أما المؤمنون الصادقون الذين يستضيئون بنور العقيدة الربانية السمحة ، ويستظلون بظل الإسلام الرخيّ الحاني ، لا جرم أنهم في حياتهم آمنون سالمون أسوياء ، غير مضطربين ولا متعثرين ولا مذعورين .