في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم !

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .

وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير . ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !

رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !

وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض ، مهلكا للحرث والنسل !

والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .

وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .

وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا !

والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !

وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه( الخناس ) . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو - سواء كان من الجنة أم كان من الناس - إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " . .

وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .

ولكنها - من ناحية أخرى - معركة طويلة لا تنتهي أبدا . فهو أبدا قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :

" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " . .

وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها - سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر - من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله . .

وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .

والحمد لله أولا وأخيرا . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

المفردات :

من الجنة والناس : أي : من شياطين الجن والإنس .

التفسير :

6- من الجنّة والناس .

أي : إن الذي يوسوس في صدور الناس صنفان :

الأول : الجنة ، وهم شياطين الجن ، ومهمتهم الوسوسة والإغراء والتزيين .

الثاني : شياطين الإنس ، الذين يزيّنون المعاصي للكبير والصغير والمرأة والرجل ، وهم قرناء السوء ، ورفقاء الشرّ ، ومن الواجب أن نستعيذ بالله منهم ، وأن نحذرهم ، وأن نتخير الرفيق الصالح الذي إذا ذكرت الله أعانك ، وإذا نسيت ذكّرك .

ومن رفقاء السوء النمّام الواشي المفسد للعلاقات ، ومن رفقاء السوء بائع الهوى والشهوات ، وذو الوجهين والمنافق .

قال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . . . ( الأنعام : 112 ) .

تلك سورة الناس ، ذكر الله تعالى فيها الناس ثلاث مرات ، في ثلاث آيات تنتهي بحرف السين ، وهو حرف مهموس ، يناسب الصبيّ الصغير في النطق ، وييسّر عليه الحفظ .

ختام السورة:

في أعقاب تفسير سورة الناس

1- جاء في صفوة التفاسير ما يأتي :

قال المفسرون : إنما خصّ الناس بالذكر –وإن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق- تشريفا وتكريما لهم ، من حيث إنه تعالى سخّر لهم ما الكون ، وأمدّهم بالعقل والعلم ، وأسجد لهم ملائكة قدسه ، فهم أفضل المخلوقات على الإطلاق . ملك الناس . أي : مالك جميع الخلق حاكمين ومحكومين ، ملكا تامّا شاملا كاملا ، يحكمهم ، ويضبط أعمالهم ، ويدبّر شئونهم ، فيعزّ ويذلّ ، ويغني ويفقر : إله الناس . أي : معبودهم الذي لا رب سواه .

قال القرطبي : وإنما قال : ملك الناس* إله الناس . لأن في الناس ملوكا فذكر أنه ملكهم ، وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم ، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه دون الملوك والعظماء .

وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإبداع ، وذلك لأن الإنسان أولا يعرف أن له ربا ، لما يشاهده من أنواع التربية . رب الناس . ثم إذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرف في خلقه ، غني عن خلقه فهو الملك لهم : ملك الناس . ثم إذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يعبد ، لأنه لا عبادة إلا للغني عن كل ما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، إله الناس . وإنما كرّر لفظ الناس ثلاثا ولم يكتف بالضمير ، لإظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم ، كما حسن التكرار في قول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

قال ابن كثير : هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل : الربوبية ، والملك ، والإلهية ، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفاتii .

2- أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن ، وإما شيطان الإنس .

قال الحسن : هما شيطانان ، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .

وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن .

3- جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما يأتي :

يلاحظ أن المستعاذ به في سورة الفلق مذكور بصفة واحدة ، وهي أنه : رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع : وهي : الغاسق . والنفّاثات . والحاسد .

وأما في سورة الناس فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث ، وهي : الرب ، والملك ، والإله ، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي : الوسوسةiii .

وفي التحصّن من الوسوسة سلامة الدين ، ومن سلم دينه سلم له كل شيء .

دعاء يورث الإخلاص

( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه ، وأستغفرك لما لا أعلمه ) .

دعاء يورث السعادة

( اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، وذهاب غمّي وحزني )iv .

دعاء من صحيح البخاري

( اللهم إني أعوذ بك من الهمّ ، والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال )v .

وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه وسلم ، اللهم لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه كما ترضى ربنا وتحب ، اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم ، اللهم انفع به كل من تعلّمه ووفقه للعمل الصالح ، وللسير على الصراط المستقيم ، اللهم اختم لنا بالإيمان والإسلام ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

***

بسم الله الرحمان الرحيم

{ فللّه الحمد ربّ السماوات وربّ الأرض وربّ العالمين 26 وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم 27 } صدق الله العظيم . ( الجاثية : 36 ، 37 ) .

مكثت في تفسير النصف الأول من القرآن الكريم 15 عاما ، كنت أفسّر في كل سنة جزءا من القرآن ، حيث كنت أعمل أستاذا ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة ، ثم في كلية التربية والعلوم الإنسانية بجماعة السلطان قابوس بسلطنة عمان .

ثم تفرغت تماما لتفسير النصف الثاني من القرآن الكريم لمدة خمس سنوات ، من 15/6/1996 إلى 14/6/2001 .

وتم بحمد الله تعالى الانتهاء من تفسير القرآن الكريم مساء يوم الخميس 22 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 14/6/2001م .

وتمت مراجعته بحمد الله فجر يوم الجمعة 23 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 15/6/2001م .

اللهم لك الحمد ولك الشكر ، ولك النعمة ولك الفضل ، ولك الثناء الحسن الجميل ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .

اللهم لك الحمد ، اللهم هذه دموعي أسكبها شكرا لك وعرفانا بفضلك ، اللهم لك الحمد يا ولي التوفيق ، يا أول يا آخر ، يا ظاهر يا باطن ، اللهم اجعل ذلك العمل خالصا لوجهك الكريم . وتمّت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم . ( الأنعام : 155 ) .

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وذهاب غمنا وحزننا ، اللهم أكر أكرمنا بالقرآن ، بنور القرآن ، وبركة القرآن ، وتلاوة القرآن ، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين . ( يونس : 10 ) .

د/عبد الله شحاتة .

القاهرة في 15/6/2001

دعاء ختم القرآن

اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة اللهم ذكّرني منه ما نسيت وعلّمني منه ما جهلت ، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يا رب العالمين * اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر * اللهم اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه * اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة سوية ومردّا غير مخز ولا فاضح * اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العلم وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات وثبّتني وثقّل موازيني وحقّق إيماني وارفع درجتي وتقّبل صلاتي واغفر خطيئاتي وأسألك العلا من الجنة * اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار * اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة * اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلّغنا بها جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا * اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أراحم الراحمين * ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار وسلّم تسليما كثيرا

تخريج أحاديث وهوامش

تفسير القرآن الكريم

( الجزء الثلاثون )

خرّج أحاديثه

الأستاذ

كمال سعيد فهمي

i إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان :

رواه البخاري في الأذان ( 608 ) ومسلم في الصلاة ( 389 ) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ) .

ii صفوة التفاسير أ . محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص622 .

iii انظر التفسير المنير أ . د وهية الزحيلي 30/483 .

iv اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك :

رواه أحمد في مسنده ( 3704 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علّمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا ) ، قال : فقيل : يا رسول الله ، ألا نتعلمها ؟ فقال : ( بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) .

v اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن :

رواه البخاري في الدعوات ( 6369 ) من حديث أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال ) .

***

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

{ من الجنة والناس } يعني يدخل في الجني كما يدخل في الإنسي ، ويوسوس للجني كما يوسوس للإنسي ، قاله الكلبي . وقوله : { في صدور الناس } أراد بالناس : ما ذكر من بعد ، وهو الجنة والناس ، فسمى الجن ناساً ، كما سماهم رجالاً ، فقال : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن }( الجن- 4 ) . وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث : جاء قوم من الجن فوقعوا ، فقيل : من أنتم ؟ قالوا : أناس من الجن . وهذا معنى قول الفراء . قال بعضهم : ثبت أن الوسواس للإنسان من الإنسان كالوسوسة للشيطان من الشيطان ، فجعل { الوسواس } من فعل الجنة والناس جميعاً ، كما قال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن } ( الأنعام- 112 ) ، كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس جميعاً .

ختام السورة:

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جويرية عن بنان ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة بن عامر ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط : { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن إبراهيم العدل ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو العباس بن الوليد بن مرثد ، أخبرني أبي ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عقبة بن عامر الجهني " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون ؟ قلت : بلى ، قال : { قل أعوذ برب الفلق } و{ قل أعوذ برب الناس } " .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما ، فقرأ فيهما : { قل هو الله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده . يفعل ذلك ثلاث مرات " .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتهما " .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي وأبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا : حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني ، أنبأنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً ، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثني ابن أبي حازم ، عن يزيد ، يعني ابن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به " . تم .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

قوله تعالى : { من الجنة والناس }

أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس .

قال الحسن : هما شيطانان : أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .

وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن . وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شياطين الإنس ؟ فقال : أو من الإنس شياطين ؟ قال : نعم ؛ لقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين{[16620]} الإنس والجن }[ الأنعام : 112 ] . . الآية .

وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن . سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن }{[16621]} [ الجن : 6 ] ، وقوما ونفرا{[16622]} . فعلى هذا يكون " والناس " عطفا على " الجنة " ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين . وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث : جاء قوم من الجن فوقفوا . فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من الجن ، وهو معنى قول الفراء .

وقيل : الوسواس هو الشيطان . وقوله : " من الجنة " بيان أنه من الجن " والناس " معطوف على الوسواس . والمعنى : قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس ، الذي هو من الجنة ، ومن شر الناس . فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن . والجِنة : جمع جني ، كما يقال : إنس وإنسي . والهاء لتأنيث الجماعة . وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجن ، كما يوسوس في صدور الناس . فعلى هذا يكون { في صدور الناس } عاما في الجميع . و{ من الجنة والناس } بيان لما يوسوس في صدره . وقيل : معنى { من شر الوسواس } أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس ، وهو حديث النفس . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " . رواه أبو هريرة ، أخرجه مسلم . فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك .


[16620]:آية 112 من سورة الأنعام.
[16621]:آية 6 سورة الجن.
[16622]:وذلك في قوله تعالى : "وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ..." آية 29 سورة الأحقاف.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

ولما كان الذي يعلّم الإنسان الشر تارة من الجن ، وأخرى من الإنس ، قال مبيناً للوسواس تحذيراً من شياطين الإنس كالتحذير من شياطين الجن ، مقدماً الأهم الأضر ، ويجوز أن يكون بياناً ل " الناس " ولا تعسف فيه لما علم من نقل القاموس : { من الجنة } أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء { والناس * } أي أهل الاضطراب والذبذبة ، سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض ، كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ، ويوسوس له ، قاله البغوي عن الكلبي ، وقال : ذكر عن بعض العرب أنه قال : جاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم ؟ قالوا : أناس من الجن ، قال : وهذا معنى قول الفراء .

ختام السورة:

وقد ختمت السورة بما بدئت به ، والمعنى الثاني أوفق برد آخرها على أولها ، فإنه يكون شرحاً للناس الذين أضيفت لهم الصفات العلى ، والخواطر الواردة على الإنسان قد تكون وسوسة ، وقد تكون إلهاماً ، والإلهام تارة يكون من الله بلا واسطة ، وتارة يكون بواسطة الملك ، ويكون كل منهما في القلب ، والوسوسة تارة من الشيطان ، وأخرى من النفس ، وكلاهما يكون في الصدر ، فإن كان الإنسان مراقباً دفع عن نفسه الضار ، وإلا هجمت الواردات عليه وتمكنت منه ، ويتميز خير الخواطر من شرها بقانون الشرع ، على أن الأمر مشكل ، فإن الشيطان يجتهد في التلبيس ، فإن وافق الشرع فلينظر ، فإن كان فعله ذلك الحين أولى من غير تفويت لفضيلة أخرى هي أولى منه بادر إليه ، وإن كان الخاطر دنيوياً وأدى الفكر إلى أنه نافع من غير مخالفة للشرع زاد على شدة تأمله الاستشارة لمن يثق بدينه وعقله ، ثم الاستخارة لاحتمال أن تتوافق عليه العقول ، ويكون فيه خلل لتقصير وقع في النظر ، وقد جعل بعضهم قانون الخاطر الرحماني أن ينشرح له الصدر ويطمئن إليه النفس ، والشيطاني والنفسي أن ينقبض عنده الصدر ، وتقلق النفس بشهادة الحديث النبوي في البر والإثم ، ويعرف الشيطاني بالحمل على مطلق المخالفة ، فإن الشيطان لا غرض له في مخالفة بعينها ، فإن حصل الذكر زال ذلك ، والنفساني ملزوم شيء بعينه سواء كان نفعاً أو ضراً ، ولا ينصرف عنه بالذكر ، وقد يكون الشيطان إنسياً من أزواج وأولاد ومعارف ، وربما كان أضر من شيطان الجن ، فدواؤه المقاطعة والمجانبة بحسب القدرة ، ومن أراد قانوناً عظيماً لمن يصاحب ومن يجانب فعليه بآية الكهف{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً }[ الكهف : 28 ] .

وكما رجع مقطعها على مطلعها كذلك كان من المناسبات العظيمة مناسبة معناها للفاتحة ليرجع مقطع القرآن على مطلعه ، ويلتحم مبدؤه بمرجعه على أحسن وجه ، كما تقدم بيان ذلك من سورة قريش إلى هنا سورة سورة ، فنظر هذه السورة إلى الفاتحة والتحامها بها من جهة أن الفاتحة اشتملت على ثلاثة أسماء : الله والرب والملك ، وزادت بكونها أم القرآن بالرحمن الرحيم ، لاشتمالهما على جميع النعم الظاهرة والباطنة التي تضمنتها صفة الربوبية ، وسورة الناس على الرب والملك والإله الذي هو الأصل في اسم الجلالة ، واختصت الفاتحة بالاسم الذي لم يقع فيه شركة أصلاً ، فلما تقرر في جميع القرآن أنه الإله الحق ، وأنه لا شركة لغيره في الإلهية يحق بوجه من الوجوه ، كما أنه لا شركة في الاسم الأعظم الذي افتتح به القرآن أصلاً بحق ولا بباطل ، ختم القرآن الكريم به معبراً عنه بالإله لوضوح الأمر وانتفاء اللبس بالكلية ، وصار الاختتام مما كان به الافتتاح على الوجه الأجلى ، والترتيب الأولي ، وبقي الاسمان الآخران على نظمهما ، فيصير النظم إذا ألصقت آخر الناس بأول الفاتحة " إله ، ملك ، رب ، الله ، رب - رحمن ، رحيم ، ملك " إعلاماً بأن مسمى الاسم الأعظم هو الإله الحق ، وهو الملك الأعظم ؛ لأنه له الإبداع وحسن التربية والرحمة والعامة والخاصة ، وحاصل سورة الناس الاستعاذة بهذا الرب الموصوف من وسوسة الصدر المثمرة للمراقبة ، كما أن حاصل سورة الفاتحة فراغ السر من الشواغل المقتضي لقصر الهمم عليه سبحانه وتعالى والبقاء في حضرته الشماء بقصر البقاء عليه ، والحكم بالفناء على ما سواه ، وذلك هو أعلى درجات المراقبة ، فإذا أراد الحق إعانة عبد حمله على الاستعانة بالاستعاذة فيسر عليه صدق التوكل ، فحينئذ يصير عابداً صادقاً في العبودية ، فيكون إلهه سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وينبغي أنه كلما زاده سبحانه وتعالى تقريباً ازداد له عبادة ، حتى ينفك من مكر الشيطان بالموت ، كما قال تعالى لأقرب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم :{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }[ الحجر : 99 ] ، ومن نقص من الأعمال شيئاً اعتماداً على أنه وصل فقد تزندق ، وكان مثله مثل شخص في بيت مظلم أسرج فيه سراجاً فأضاء ، فقال : ما أوقدت السراج إلا ليضيء البيت فقد أضاء ، فلا حاجة لي الآن إلى السراج ، فأطفأه فعاد الظلام كما كان ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتتاح القرآن بعد ختمه ، كما أشار إليه اتصال المعنى بما بينته ، وسمي ذلك الحال المرتحل ، وكأن القارىء ذكر بالأمر بالاستعاذة إرادة افتتاح قراءته ، فكأنه قيل : استعذ يا من ختم القرآن العظيم لتفتتحه ، وكأنه لما استعاذ بما أمر به في هذه السورة قيل له : ثم ماذا تفعل ؟ فقال : أفتتح ، أو أنه لما أمر بالاستعاذة قال : ماذا أفعل ؟ فقيل : افتتح بسم الله الرحمن الرحيم الذي تجب مراقبته عند خواتم الأمور وفواتحها ؛ لأنه لا يكون أمر إلا به ، أو أن البسملة مقول القول في { قل } على سبيل من { أعوذ } ، أو بدل من { برب الناس } ، وكأنه أمر بالتعوذ ، والتسمية أمر بالدفع والجلب ، وذلك لأنه لما أمر بهذا التعوذ - وكان قد قال سبحانه{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[ النحل : 98 ] ، علم أن المراد ابتداؤه بالقرآن ، فنسبتها إلى الفاتحة نسبة المعلول إلى علته ، فكأنه قيل : استعذ بهذا الرب الأعظم الذي لا ملك ولا إله غيره ؛ لأن له الحمد ، وهو الإحاطة بكل شيء ، فهو القادر على كل شيء ، فهو القاهر لكل شيء في المعاد ، وهو الملجأ والمفزع لا إله إلا هو ، فإن الاسم هو الوصف والمراد به الجنس ، فمعنى بسم الله أي بوصفه أو بأوصافه الحسنى ، والحمد هو الثناء بالوصف الجميل ، فكأنه قيل : أعوذ برب الناس بأوصافه الحسنى ؛ لأن له الحمد وهو جميع الأوصاف الحسنى ، فإن البدء فيه يحتاج إلى قدرة ، فله القدرة التامة ، أو إلى علم فالعلم صفته ، أو كرم فكذلك ، والحاصل أنه كأنه قيل : تعوذ به من الشيطان بما له من الاسم الذي لم يسامه فيه أحد لكونه جامعاً لجميع الأسماء الحسنى ، أي الصفات التي لا يشوبها نقص ، خصوصاً صفة الرحمة العامة التي شملتني أكنافها ، وأقامني إسعافها ، ثم الرحمة الخاصة التي أنا أجدر الناس باستمطارها لما عندي من النقص المانع لي منها ، والمبعد لمن اتبع الحظوظ عنها ، فأسأله أن يجعلني من أهلها ، ويحملني في الدارين بوصلها ، لأكون من أهل رضاه ، فلا أعبد إلا إياه ، ولك أن تقرر الاتصال والالتحام بوجه آخر ظاهر الكمال بديع النظام فتقول : لما قرب التقاء نهاية الدائرة السورية آخرها بأولها ومفصلها بموصلها اشتد تشاكل الرأسين ، فكانت هذه السور الثلاث الأخيرة مشاكلة للثلاث الأولى في المقاصد ، وكثرة الفضائل والفوائد : الإخلاص بسورة التوحيد آل عمران ، وهو واحد ، والفلق للبقرة طباقاً ووفاقاً ، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر ، فهي للعون بخير الأمر ، والفلق للعوذ من شر الخلق المحصي لكل خير ، وفي البقرة{ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }[ البقرة : 67 ] ، { يعلمون الناس السحر }[ البقرة : 102 ] الآيات ، { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم }[ البقرة : 109 ] الآية ، والناس للفاتحة ، فإنه إذا فرغ الصدر ، الذي هو مسكن القلب ، الذي هو مركب الروح ، الذي هو معدن العقل ، كانت المراقبة ، فكان ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإخلاص ، ثم الاستعاذة من كل شر ظاهر ، ومن كل سوء باطن ، للتأهل لتلاوة سورة المراقبة ، بما دعا إليه الحال المرتحل ، وما بعدها من الكتاب ، على غاية من السداد والصواب ، وكأنه اكتفى أولاً بالاستعاذة المعروفة ، كما يكتفي في أوائل الأمور بأيسر مأمور ، فلما ختم الختمة جوزي بتعوذ من القرآن ، ترقية إلى مقام الإحسان ، فاتصل الآخر بالأول ، أيّ اتصال بلا ارتياب ، واتحد به كل اتحاد ، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب .

هذا ما يسره الله من مدلولات نظومها وجملها ، بالنسبة إلى مفهوماتها وعللها ، وبقي النظر إلى ما يشير إليه أعداد كلماتها ، بلطائف رموزها وإشاراتها :

فهي عشرون كلمة توازيها إذا حسبت من أول النبوة سنة عمرة القضاء ، وهي السابعة من الهجرة ، بها تبين الأمن مما وسوس به الشيطان سنة عمرة الحديبية من أجل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لدخول البيت والطواف به ، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاث كانت ثلاثاً وعشرين ، فوازت السنة العاشرة من الهجرة ، وهي سنة حجة الوداع ، وهي القاطعة لتأثير وسواس الشيطان الذي كان في أول السنة الحادية عشرة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب بأمر الردة ، فأعاذ الله من شره بهمة الصديق رضي الله تعالى عنه حتى رد الناس إلى الدين ، وأزال به وسواس الشياطين المفسدين ، فانتظمت كلمة المسلمين تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم " ، فإذا ضممت إليها كلمات البسملة صارت سبعاً وعشرين ، توازي سنة استحكام أمر عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه ، الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره ، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة . هذا بالنظر إلى كلماتها ، فإن نظرت إليها من جهة الحروف كانت لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، منها أن كلماتها مع كلمات الفاتحة انتظمت من ستة وعشرين حرفاً ، وهي ما عدا الثاء المثلثة والزاء الظاء المعجة من حروف المعجم التسعة والعشرين ، كل واحدة منهما من اثنين وعشرين حرفاً ، اشتركتا في ثمانية عشر منها ، واختصت كل واحدة منهما بأربعة : الفاتحة بالحاء والطاء المهملتين ، والضاد والغين المعجمتين ، والناس بالجيم والخاء والشين المعجمتين والفاء .

وقال ابن ميلق : سقط من الفاتحة سبعة أحرف " ثج خز شظف " ، انتهى .

فلعل في ذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن - تكامل نزول القرآن من أوله إلى آخره في عدد الحروف التي اشتمل عليها كل من سورتي أوله وآخره من السنين وذلك اثنان وعشرون ، والثالثة والعشرون سنة القدوم على منزله الحي القيوم سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه ، وأعز سلطانه ، وأقوم برهانه .

قال مؤلفه رحمه الله تعالى : وهذا تمام ما أردته من نظم الدرر من تناسب الآي والسور ، ترجمان القرآن مبدي مناسبات الفرقان ، التفسير الذي لم تسمع الأعصار بمثله ، ولا فاض عليها من التفاسير على كثرة أعدادها كصيبه وبله ، فرغته في المسودة يوم الثلاثاء سابع شعبان سنة خمس وسبعين وثمانمائة ، بمسجدي من رحبة باب العيد بالقاهرة المغرية ، وكان ابتدائي فيه في شعبان سنة إحدى وستين ، فتلك أربع عشرة سنة كاملة ، وفرغته في هذه المبيضة عصر يوم الأحد عاشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة ، بمنزلي الملاصق للمدرسة البادرائية من دمشق ، فتلك اثنتان وعشرون سنة بعدد سني النبوة الزاهرة الأنيسة العلية الطاهرة المباركة الزكية ، ولولا معونة الله أضحى معدوماً ، أو ناقصاً مخروماً ، فإني بعد ما توغلت فيه واستقامت لي مبانيه ، فوصلت إلى قريب من نصفه ، فبالغ الفضلاء في وصفه ، بحسن سبكه ، وغزارة معانيه ، وإحكام رصفه ، دب داء الحسد في جماعة أولي النكد ، والمكر واللدد ، يريدون الرئاسة بالباطل ، وكل منهم من جوهر العلم عاطل ، مدّ ليل الجهل فيهم ظلامه ، وأثار نقع السفه على رؤوسهم سواده وقتامه ، صوبوا سهام الشرور ، والأباطيل وأنواع الزور ، فأكثروا التشييع بالتشنيع ، والتقبيح والتبشيع ، والتخطئة والتضليل ، بالنقل من التوراة والإنجيل ، فصنفت في ذلك الأقوال القويمة ، في حكم النقل من الكتب القديمة ، بينت فيه أن ذلك سنة مستقيمة ، لتأييد الملة الحنيفية العظيمة ، وأخرجت بذلك نص الشافعي ، وكلام النووي والرافعي ، واستكتبت على الكتاب ، العلماء الأنجاب ، فكتبوا ما أودعته " مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور " فأطفأ الله نارهم ، وأظهر عوارهم ، وشهر خزيهم وعارهم ، ثم قاموا في بدعة دائم المعروف ، فصنفت فيها القول المعروف ، وبينت مخالفتهم للكتاب والسنة ، ووقوعهم في عين الفتنة ، وخرقهم لأعظم الجنة ، وصريح نص الشافعي ونقول العلماء ، فكانوا كمن ألقم الحجر ، أو ملىء فمه بالماء ، ثم قاموا في فتنة ابن الفارض ، وكلهم معاند معارض ، وألبوا عليّ رعاع الناس ، فاشتد شعاع البأس ، فكادوا أن يطبقوا على الانعكاس ، وصوبّوا طريق الإلحاد ، وبالغوا في الرفع من أهل الاتحاد ، ولجوا بالخصام في العناد ، وأفتوا بمحض الباطل ، وبثوا السم القاتل ، إلا ناساً قليلاً كان الله بنصرهم على ضعفهم كفيلاً ، فسألتهم سؤالاً ، جعلهم ضلالاً جهالاً ، فتداولوه فيما بينهم وتناقلوه وعجزوا عن جوابه بعد أن راموه أشد الروم ، وحاولوه فظهر لأكثر الناس حالهم ، واشتهر بينهم ضلالهم ، وغيهم الواضح ومحالهم ، وصنفت في ذلك عدة مصنفات ، بانت فيها مخازيهم وظهرت المخبآت ، منها " صواب الجواب للسائل المرتاب " ، ومنها " القارض لتكفير ابن الفارض " ، ومنها " تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض " ، ومنها " تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي " ، ومنها " تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد " ، أنفقت فيها عمراً مديداً ، وبددوا فيها أوقاتي ، بددهم الله تبديداً ، وهدد أركانهم وأعضادهم تهديداً ، وقرعتهم بالعجز عن الجواب ، الكاشف للارتياب ، صباحاً ومساءً ، وإعادة وإبداء ، فحملهم التقريع ، والتوبيخ والتبخيع ، على كتابة جواب ، لم يخل من ارتجاج واضطراب ، وشك وارتياب ، بينت أن جامعه أخطأ في جميعه الصواب ، وكفر في أربعة مواضع كفراً صريحاً ، وكذب في ثمانية فصار بذلك جريحاً ؛ بل هالكاً طريحاً ، فأطلت بذلك التقريع ، والتوبيخ والتبشيع ، فذلت أعناقهم ، وضعف شقاقهم ، وخفي نفاقهم ، غير أنه حصل في كل واحدة من هذه الوقائع ، من الشرور وعجائب المقدور ، ما غطى ظلامه الشموس الطوالع .

وطال الأمر في ذلك سنين ، وعم الكرب حتى كثر الأنين ، والتضرع في الدعاء والحنين ، وثبّت الله ورزق الصبر والأناة حتى أكمل هذا الكتاب ، على ما تراه من الحسن والصواب .

وقد قلت مادحاً للكتاب المذكور ، بما أبان عنه من عجائب المقدور ، وغرائب الأمور ، شارحاً لحالي ، وحالهم وظفر آمالي ، وخيبة آمالهم من مجزوء الرجز ، وضربه مقطوع ، والقافية متواتر مطلق مجرد ، مسمياً له ب " كتاب لمّا " لأن جل مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض ، حتى إن كل جملة تكون آخذة بحجزة ما أمامها متصلة بها ، وذلك هو المظهر المقصود من الكلام وسره ولبابه ، الذي هو للكلام بمنزلة الروح وبيان معاني المفردات ، وكل جملة على حيالها بمنزلة الجسد ، فالروح هو المقصود الأعظم ، يدرك ذلك من يذوق ويفهم ، ويسري ذهنه في ميادين التراكيب ويعلم ، و " لما " طرف يراد بها ثبوت الثاني مما دخل عليه بثبوت الأول على غاية المكنة ، بمعنى أنها كالشروط تطلب جملتين يلزم لذلك الملزوم ، فتم الكتاب في هذا النظم ب " لما " ، لأني أكثرت من استعمالها فيه لهذا الغرض :

هذا كتاب لما *** لم المعاني لما

غدت بحور علمه *** تمد مداً جما

بشرت من يحسده *** بأن يموت غما

فإن قصدي صالح *** جاهدت فيه الهما

فربنا يقبله *** كيفية وكما

فبالذي أردته *** لقد أحاط علما

كابدت فيه زمناً *** من حاسدي ما غما

عدوا سنين عددا *** يسقون قلبي السما

وكم دهوني مرة *** وكم رموني سهما

وأوسقوا قلبي أذى *** وأوسعوني ذما

وكم بغوني عثرة *** فما رأوا لي جرما

وفتروا من قاصدي *** همهمة وعزما

وأوعدوهم بالأذى *** وأوهنوهم رجما

ألقى إذا اشتد لظى *** أذى إذا هم رجما

ألقى إذا الليل دجا *** وبالبلا ادلهما

أذاهم وظلمهم *** بدعوة في الظلما

أستصرخ الله بهم *** أقول يا اللهما

يا رب إني جاهد *** فافرج إلهي الغما

لا ذنب لي عندهم *** إلا الكتاب لما

جرت ينابيع الهدى *** منه فصارت يما

صنعته وفي بحو *** رعلمه ما طما

وقد علا تركيبه *** وعاد يحلو نظما

عملته نصيحة *** لمن يحب العلما

أودعته فرائداً *** يرقص منه الفهما

تجلو العمى من لطفها *** وتسمع الأصما

خص نفيس علمها *** وللأناسي عما

تنطق من تغنى بها *** وإن يكونوا بكما

أفعالها جليلة *** أعيذها بالأسما

سهل ربي أمره *** عليّ حتى تما

في أربع وعشرة *** من السنين صما

قال لسان عدها *** دونك بدراً تما

وليس يلغي ناقصاً *** يا صاحبي يوما

أعيذه بالمصطفى *** من شر وغد ذما

ومن حسود قد غدا *** من أجله مهتما

فليس يبغي ذمه *** إلا بغيضاً أعما

كفاه ربي شرهم *** وزان منه الأسما

وردّ في تدبيرهم *** تدميرهم والغرما

وردّهم بغيظهم *** لما ينالوا غلما

وزاده سعادة *** ولازمته النعما

قال ذلك منشيه أحوج الخلائق إلى عفو الخالق أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي رحمه الله تعالى قائلاً : الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

وكان الفراغ من هذا الجزء على يد أقل عبيد الله ، وأحوجهم إلى لطف الله وعفوه عبد الكريم بن علي بن محمد المحولي الشافعي نزيل بلد الله الحرام ، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين ، . . . بمكة المشرفة في يوم السبت المبارك السادس والعشرين من شهر صفر الخير سنة أربع وأربعين وتسعمائة ، وقد تجاوز سني الآن خمسة وسبعين عاماً ، أسأل الله حسن الخاتمة والثبات على دين الإسلام والوفاة بأحد حرميه بمنه ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وقال بعض تلامذة المصنف وهو العرس خليل بن موسى المقرىء مادحاً للكتاب المذكور المسمى ب " لما " :

برهان دين الله أضحى موضحاً *** أسرار قول الله في القرآن

وأتى بما ترك الورى من بعده *** تمشي الورا أبداً مدى الأزمان

فمن ادعى نسجاً على منواله *** فقد ادعى ما ليس في الإمكان

وإذا المفسر رام يوماً أنه *** بمثاله يأتي بلا إذعان

قلنا له فسر وقايس بعد ذا *** ولنا الدليل عليك بالبرهان

وكان الفراغ من نسخ هذا النصف الأخير من الكتاب المسمى ب " لما " مناسبات القرآن العظيم على من أنزل عليه أفضل الصلاة والسلام في الليلة الثالثة عشرة من شهر جمادى الأولى من شهور سنة سبع وتسعين وألف على يد أحقر العباد ، وأحوجهم إلى مغفرة ربه الجواد ، محمد بن أحمد البدرشيني بلداً ، الشافعي مذهباً ، مصلياً ومسلماً على أفضل وأكمل وأجمل خلق الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلاماً دائمين متلازمين بدوام ملك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، آمين آمين .

إن تلق عيباً فلا تعجل بسبك لي *** إني امرؤ لست معصوماً من الزلل