( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها ، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية ، يصعب التغلب عليها ومغالطتها .
( أروني ماذا خلقوا من الأرض ? ) . .
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا ، أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .
( أم لهم شرك في السماوات ? ) . .
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق ، والشعور بوحدانيته ؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق ، فيطالبها بالحجة والدليل ؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير :
( ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة ، أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات ، واسعة المدى ، قوية الإيقاع ، حاسمة الدليل .
4- { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أخبروني أيها الكفار ، هل الأصنام أو الأوثان أو الجن أو الملائكة ، أو جميع ما تعبدون من دون الله ، هل هذه المعبودات الزائفة خلقت شيئا من هذا الكون البديع ؟ أروني هذا الذي خلقته من الأرض ، هل خلقت الماء أو اليابس ؟ الشرق أو الغرب ؟ السهل أو الجبل ؟ الحيوان أو الإنسان ؟ والجواب معلوم : إن أحدا لم يدع مطلقا أنه خلق الأرض ، ولا جانبا منها ، لأن هذه المعبودات الزائفة لا تقدر على خلق شيء من ذلك ، وهذه الأرض لم تخلق نفسها ، فلم يبق إلا أن تكون من خلق الله .
ثم قل لهم أيها الرسول الكريم : { أم لهم شرك في السماوات . . . }
أي : تدرج معهم واسألهم : هل لهم مشاركة وإسهام في خلق السماوات ؟
هل ساعدوا الله وأعانوه في خلق شيء من ذلك ؟ والجواب معلوم ، ولكن القرآن يستمر في مناقشتهم وتحديهم بأن يثبتوا بأي حجة أو دليل ، يفيد أن هذه المعبودات قد خلقت أي شيء في الأرض أو السماء حتى تعبد .
{ ائتوني بكتاب من قبل هذا . . . }
أي : هل عندكم كتاب من الكتب المنزلة قبل القرآن ، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى ، تشهد بأن هذه المعبودات الزائفة قد خلقت شيئا ، أو جانبا من الأرض أو السماء ؟ وإذا لم تكن عندكم وثيقة مكتوبة تثبت ذلك ، فهل عندكم بقية من علوم الأولين تنطق باستحقاق هذه المعبودات للعبادة ، أو أنهم خلقوا شيئا من الأرض ، أو اشتركوا في خلق السماوات ؟ هل لديكم أي دليل نقلي أو عقلي يثبت لهذه الأصنام خلقا للأرض ، أو مشاركة في خلق السماء ؟
فقدموا ما يثبت صدقكم ، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي ، وحيث إنه لا دليل لكم فقد ثبت بطلان كفركم ، وأقيمت الحجة عليكم .
{ ما تدعون من دون الله } : أي من الأصنام والأوثان .
{ أروني ماذا خلقوا من الأرض } أي أشيروا إلى شيء خلقوه من الأرض .
{ أم لهم شرك في السموات } : أي أم لهم شركة .
{ ائتوني بكتاب من قبل هذا } : أي منزل من قبل القرآن .
{ أو أثارة من علم } : أي بقيةٍ من علم يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام .
{ إن كنتم صادقين } : أي في دعواكم أن عبادة الأصنام والأوثان تقربكم من الله تعالى .
وقوله تعالى { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } أي من الأصنام والأوثان { أروني ماذا خلقوا من الأرض } أي من شيء { أم لهم شرك في السموات } ولو أدنى شرك وأقله ، وقوله { ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أو أثارة من علم } أي بقية من علم تشهد بصحة عبادة ودعاء آلهة لم تخلق شيئا من الأرض وليس لها أدنى شرك في السموات { إن كنتم صادقين } في دعواكم أنها آلهة تستحق أن تُعبد .
{ 4-6 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
أي : { قُلْ } لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثانا وأندادا لا تملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، قل لهم -مبينا عجز أوثانهم وأنها لا تستحق شيئا من العبادة- : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئا ؟ هل خلقوا جبالا ؟ هل أجروا أنهارا ؟ هل نشروا حيوانا ؟ هل أنبتوا أشجارا ؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك ؟
لا شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضلا عن غيرهم ، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله فعبادته باطلة .
ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال : { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } الكتاب يدعو إلى الشرك { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك . من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك ، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك به ، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وكل رسول قال لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فعلم أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ولا دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة . يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة ؟