هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ ص ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ؛ وكما توجهه [ ص ] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [ ص ] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج ، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص ، والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة ، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية إلامام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله [ ص ] يكثر في آخر أمره من قوله : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ؛ فقد رأيتها " . . ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير : والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [ ص ] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . " الحديث " . .
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . الخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي [ ص ] إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها .
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ? فقال عمر : إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عز وجل : ( إذا جاء نصر الله والفتح )? فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا . فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس ? " فقلت لا . فقال : ما تقول ? فقلت : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . قال : ( إذا جاء نصر الله والفتح )فذلك علامة أجلك( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) . فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول [ تفرد به البخاري ] .
فلا يمتنع أن يكون الرسول [ ص ] حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا . فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . . دعا رسول الله [ ص ] فاطمة وقال : " إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : " اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي " فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله [ ص ] أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : " دعا رسول الله [ ص ] فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت . قالت : فلما توفي رسول الله [ ص ] سألتها عن بكائها وضحكها . قالت : أخبرني رسول الله [ ص ] أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . " [ أخرجه الترمذي ] .
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول [ ص ] وربه هي : ( إذا جاء نصر الله والفتح . . )فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :
( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره ، إنه كان توابا ) . . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ ص ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله . . . ) . . فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لإشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء . .
( سورة النصر مدنية ، وآياتها 3 آيات ، نزلت بعد سورة التوبة )
ومع قصرها فإنها حملت البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، ثم طلبت منه التسبيح والحمد والاستغفار .
إذا جاء نصر الله والفتح . وأظهرك على أعدائه ، وفتح لك مكة . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فوجا بعد فوج . فنزه ربك حامدا إياه على ما أولاك من النعم والمنن ، واستغفر الله لحظة الانتصار من الزهو والغرور والتقصير ، إنه كان ولم يزل توابا كثير القبول للتوبة ، يحب التوابين ويحب المتطهرين .
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منتصرا ، انحنى على راحلته حتى أوشك أن يسجد عليها ، وهو يقول : ( تائبون آيبون حامدون لربنا شاكرون ) .
ويورة النصر تحمل بين طياتها إتمام الرسالة ، وأداء الأمانة ، والاستعداد للحاق بالرفيق الأعلى .
قال البيضاوي : تسمى سورة التوديع .
ويقال : إن عمر لما سمعها بكى ، وقال : الكمال دليل الزوال .
وروي أن العباس بكى لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك ) ؟ قال : نعيت إليه نفسك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها لكما تقول ، وإنما ذلك لأن فيها تمام الأمر ) .
كما في قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم . . . ( المائدة : 3 ) .
وجاء في رواية للبخاري أن عمر رضي الله عنه سأل أشياخ بدر ، فقال : ما تقولون في قول الله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح . حتى ختم السورة ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال : أكذلك تقول يا بن عباس ؟ قلت : لا ، فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه له . قال : إذا جاء نصر الله والفتح . فذلك علامة أجلك . فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان توّابا . فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول . i .
وفي رواية الإمام أحمد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله : ( سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ) . ii .
1- عند الفتح الأكبر ودخول الناس في دين الإسلام ، ينبغي شكر الله والاستغفار من كل تقصير ، فإن باب الله مفتوح ، وهو صاحب الطول ، ويقبل التوبة من جميع التائبين .
2- وفي السورة إيذان بأداء النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة العظمى ، وانتهاء المهمة الكبرى ، وتوجيه له بأن يستعد للموت بالاستغفار والتوبة وشكر الله والتسبيح بحمده .
{ إذا جاء نصر الله والفتح 1 ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا 2 فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان توّابا 3 }
إذا كثر نصرك على العباد ، وفتح الله لك البلاد ، وفتحت مكة أم القرى .
ونلحظ أن الله أضاف النصر إليه ، فهو نصر الله ، لقد مكث المؤمنون في مكة ثلاثة عشر عاما ، يتعرضون لأقسى ألوان الاضطهاد ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وخاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوات وسرايا ، بلغ عددها اثنتين وخمسين غزوة وسرية خلال عشر سنوات ، كلها كفاح وجهاد ، يمسون ويصبحون في الحديد ، أي في الدروع والسيوف وآلات الحرب ، وكانت النفوس تتشوف إلى نصر حاسم ، وكان الله تعالى يدّخر ذلك لحكمة يعلمها ، وهو العليم الحكيم .
قال تعالى : حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يردّ بأسنا عن القوم المجرمين . ( يوسف : 110 ) .
نزلت بمنى في حجة الوداع ، فتعد مدنية ، وهي آخر ما نزل من السور ، وآياتها 3 ، نزلت بعد التوبة .
سأل عمر بن الخطاب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن معنى هذا السورة فقالوا : إن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النصر والفتح ، وذلك على ظاهر لفظها ، فقال لابن عباس بمحضرهم : يا عبد الله ، ما تقول أنت ؟ قال : " هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح . فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما علمت " .
وقد قال بهذا المعنى ابن مسعود وغيره ، ويؤيده قول عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلم العرب ، جعل يكثر أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم إني أستغفرك ، يتأول القرآن ، أي : في هذه السورة . وقال لها مرة : " ما أراه إلا حضور أجلي " .
وقال ابن عمر : " نزلت هذه السورة بمنى أيام التشريق في حجة الوداع ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوما أو نحوها " .
{ إذا جاء نصر الله والفتح } يعني : بالفتح : فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : إن النصر صلح الحديبية ، والفتح فتح مكة . وقيل : النصر إسلام أهل اليمن ، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخبار بغيب ، فهو من أعلام النبوة .