فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة :
( إنا أنزلناه في ليلة مباركة . إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . .
والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي - والله أعلم - الليلة التي بدأ فيها نزوله ؛ وهي إحدى ليالي رمضان ، الذي قيل فيه : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) . . والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة ؛ كما أنه لم ينزل كله في رمضان ؛ ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض ؛ وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك . وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة .
وإنها لمباركة حقاً تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية ، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر ؛ والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة ، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة ؛ وتقيم على اساسها عالماً إنسانياً مستقراً على قواعد الفطرة واستجاباتها ، متناسقاً مع الكون الذي يعيش فيه ، طاهراً نظيفاً كريماً بلا تعمل ولا تكلف ؛ يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين .
ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء ، موصولين مباشرة بالله ؛ يطلعهم أولاً بأول على ما في نفوسهم ؛ ويشعرهم أولاً بأول بأن عينه عليهم ، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة ، وحساب هذه الرعاية ، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ؛ ويلجأون إليه أول ما يلجأون ، واثقين أنه قريب مجيب .
ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري ، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر ؛ ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير !
وبقي هذا القرآن منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان . حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع ، بكل خصائصه دون تحريف . وهذه سمة المنهج الإلهي وحده . وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية .
إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم ، وما يصلح لفترة من الزمان ، ولظرف خاص من الحياة . فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال ، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين ؛ جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب .
أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة . . أولاً للإنذار والتحذير : ( إنا كنا منذرين ) . فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه .
ليلة مباركة : كثيرة البركة ، وهي ليلة القدر على الأصح .
والليلة المباركة على الأرجح هي ليلة القدر ، وهي إحدى ليالي شهر رمضان ، وفي الصحيح أنها إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ابتدأ نزول القرآن الكريم في ليلة القدر ، فسمى الشيء باسم أوله تيمنا به ، حيث خاطبت السماء الأرض في هذه الليلة .
ذكر السيوطي في ( الإتقان ) ، والزركشي في ( البرهان ) أن القرآن الكريم له ثلاث تنزلات :
1- التنزل الأول : من رب العزة جل جلاله إلى اللوح المحفوظ في السماء السابعة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } . ( البروج : 21 ، 22 ) .
2- التنزل الثاني : من اللوح المحفوظ بالسماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . ( القدر : 1 ) .
وبقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . . } ( البقرة : 185 ) .
3- التنزل الثالث : من بيت العزة في السماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، منجما حسب الوقائع والحوادث ، خلال ثلاث وعشرين سنة ، منها ثلاث عشرة سنة في مكة ، وعشر سنوات في المدينة المنورة ، والحكمة في تعدد نزول القرآن الكريم هو التشريف والتكريم لهذا الكتاب الكريم ، حيث أنزله الله ثلاثة تنزلات ، وأيضا لإلهاب شوق النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يشعر أن القرآن قريب منه بالسماء الدنيا ، على حد قول الشاعر :
وأعظم ما يكون الشوق يوما *** إذا دنت الخيام من الخيام
- فالقرآن الكريم نزل جملة واحدة من عند الله العلي القدير إلى اللوح المحفوظ بالسماء السابعة .
- ثم نزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . ( القدر : 1 ) .
- ثم نزل مفرقا ومنجما في شهور السنة كلها ، خلال ثلاث وعشرين سنة من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم .
وبهذا نجمع بين الآثار الواردة التي تفيد أنه نزل في ليلة القدر ، وبين الواقع المشاهد الذي يفيد أنه نزل خلال ثلاث وعشرين سنة .
قال تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } . ( الإسراء : 106 ) .
عمره الشريف صلى الله عليه وسلم
نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة ، واستمر نزول الوحي عليه ثلاث عشرة سنة في مكة ، وهاجر إلى المدينة وعمره الشريف ثلاث وخمسون سنة ، ومكث تسع سنوات وبضعة أشهر في المدينة ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى وعمره اثنان وستون سنة وبضعة أشهر صلى الله عليه وسلم ، ويمكن أن نقابل ذلك بالتاريخ الميلادي فنقول :
- ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 570 ميلادية .
- بدء نزول الوحي عليه سنة 610 ميلادية .
- هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سنة 623 ميلادية .
- لحاقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى سنة 633 ميلادية ؛ وهو التاريخ الموافق لسنة 10 هجرية .
قال ابن جزي في التسهيل لعلوم التنزيل :
{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } .
وكيفية إنزاله فيها أنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء .
وقيل المعنى : ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر .
وقال القرطبي : ووصف الليلة المباركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب .
أي : معلمين الناس ما ينفعهم وما يضرهم شرعا ، لتقوم حجة الله على عباده .
ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال{[57209]} : { إنا } أي بما لنا من العظمة { أنزلناه } أي الكتاب إما{[57210]} جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض { في ليلة مباركة } أي ليلة القدر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما{[57211]} أو النصف من شعبان ، فلذلك يتأثر{[57212]} عنه من التأثيرات{[57213]} ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : ينزل إلى سماء الدنيا{[57214]} كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة وسماها { مباركة } لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون {[57215]}العبد فيها{[57216]} حاضراً بقلبه مشاهداً لربه ، يتنعم فيها بأنوار الوصلة {[57217]}ويجد فيها{[57218]} نسيم القربة ، وقال الرازي في اللوامع : وأعظم الليالي بركة ما كوشف{[57219]} فيها بحقائق الأشياء .
ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة ، علل الإنزال أو{[57220]} استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : { إنا } أي على ما {[57221]}نحن عليه{[57222]} من الجلال { كنا } بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا { منذرين * } لا نؤاخذهم{[57223]} من غير إنذار ، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم{[57224]} قلوباً وأوعاهم سمعاً{[57225]} نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم يقاربه من المعالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت [ سورة-{[57226]} ] حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو{[57227]} سورة غافر على شيء منه ، وحصل{[57228]} من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله{[57229]} من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله
{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون }[ الزخرف : 44 ] وتعلق الكلام بعد{[57230]} هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة ، افتتح{[57231]} تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض ، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ثم{[57232]} ذكر من فضلها فقال { فيها يفرق كل أمر حكيم } فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى [ سماء الدنيا-{[57233]} ] وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل ، وتأخر التعريف بوقت إنزاله{[57234]} إلى سماء{[57235]} الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم ، ثم وقع إثر هذا تفصيل{[57236]} وعيد قد أجمل في قوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } وما تقدمه من قوله { أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون } وقوله سبحانه { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد - إلى آخر السورة ، ففصل بعض{[57237]} ما أجملته هذه الآي في{[57238]} قوله تعالى في صدر سورة الدخان { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } وقوله تعالى { يوم نبطش البطشة الكبرى } ، والإشارة إلى يوم بدر ، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا{[57239]} أن لا فارق {[57240]}إن هم{[57241]} عقلوا واعتبروا ، ثم عرض بقرنهم{[57242]} في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، ثم{[57243]} ذكر تعالى : { شجرة الزقوم } إلى قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول ، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج{[57244]} علم الواضح من الطريقين ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه { إنما يتذكر من يخشى } ثم قال { فارتقب } وعدك ووعيدهم { إنهم مرتقبون } .