في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :

( وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود ! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ، يقول له فيها : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !

ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] تبرز من نواح شتى :

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله .

وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقيها . وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة . ما هو ? ما عظمته ? ما دلالة كلماته ? ما مداها ? ما صداها ? ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين .

إن إطاقة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب . . تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن . . هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل .

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة . وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه . ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر . أعظم بصدورها عن العلي الكبير . وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا . لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذى سمع ما سمع من العلى الكبير !

والله أعلم حيث يجعل رسالته . وما كان إلا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى . فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها .

إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء . فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء . في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة . طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم . ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة . ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك . . وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم . والعبد الطائع . والمبلغ الأمين .

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة . وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة . وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر . وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها . وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار !

ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان . . لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه ، فيهتزكيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم . . وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر . وأصحابه يدركون أنه بشر . إنه نبي نعم . ولكن في الدائرة المعلومة الحدود . دائرة البشرية ذات الحدود . . فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله . وهو يعلم من هو الله . هو بخاصة يعلم من هو الله ! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه . ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير . . . إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير ! ! !

إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة . . إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني . إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ؛ حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان . . إنه محمد - وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام . والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم . وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) . وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم . .

ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله ؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية .

والناظر في هذه العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء . . الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير ؛ والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور . . والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع . وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء .

والرسول الكريم يقول : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . . فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل . وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم . وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية ، وصورة رفيعة ، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . . فيمجد بهذا الثناء نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم .

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام . فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا ؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل . إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء . تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق . وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة ، كي يحققوا إنسانيتهم العليا ، وكي يصبحوا أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض ؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض ؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد .

ثم إنها ليست فضائل مفردة : صدق . وأمانة . وعدل . ورحمة . وبر . . . . إنما هي منهج متكامل ، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية ؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا ، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله . لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة !

وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وتمثلت في ثناء الله العظيم ، وقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

1

وإنك لعلى خلق عظيم .

هذه شهادة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اختاره رسولا أمينا ، وأنزل عليه آخر رسالات السماء ، الرسالة التي اشتملت على صلاح البشرية ، وهداية الناس ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .

وأنزل الله القرآن الكريم نورا وهداية وصلاحا ، وكانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم قرآنا متحركا .

سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن . iv رواه مسلم في صحيحه .

وفي الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ، ولا قال لشيء لم أفعله ألا فعلته ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا . v .

لقد تحمل الأذى في مكة قبل الهجرة ، ثم نصره الله عليهم ، ودخل مكة فاتحا منتصرا ، فعفا عن أهلها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .

قال تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . . . ( آل عمران : 159 ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

وهذه أكبرُ شهادة من عند ربّ العالمين ، وهل هناك أعظمُ من هذه الشهادة للرسول الأمين ، الذي طُبع على الحياء والكرم والشجاعة والصفْح والحِلم وكل خلُق كريم ! .

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ ؟ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه ؟ » .

وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت : «ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً ، ولا ضرب بيدِه شيئا قط إلا أن يُجاهِد في سبيل الله ، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ إلا كان أحبُّهما إليه أيسَرَهما . وكان أبعدَ الناس عن الإثم ، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتَهك حرماتُ الله » .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ولهذا قال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي : عاليًا به ، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به ، وحاصل خلقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين ، [ عائشة -رضي الله عنها- ] لمن سألها عنه ، فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [ الآية ] ، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، [ والآيات ] الحاثات على الخلق العظيم{[1188]}  فكان له منها أكملها وأجلها ، وهو في كل خصلة منها ، في الذروة العليا ، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا ، قريبًا من الناس ، مجيبًا لدعوة من دعاه ، قاضيًا لحاجة من استقضاه ، جابرًا لقلب من سأله ، لا يحرمه ولا يرده خائبًا ، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم ، وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتمَّ عشرةٍ وأحسنَها ، فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم .

فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون .


[1188]:- في ب: على كل خلق جميل.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وإنك لعلى خلق عظيم} يعني دين الإسلام...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه...

عن ابن عباس، قوله:"وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ "يقول: إنك على دين عظيم، وهو الإسلام.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

والأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف معاملة أعداء الله تعالى ومعاملة أولياء الله وأنصاره، وكلف أن يرفض الدنيا، ويتزهد فيها، وكلف معاملة الصغير والكبير والعالم والجاهل والجن والإنس، وكلف معاملة نسائه. ومن كلف المعاملة مع هؤلاء لم يقم لها إلا بخلق عظيم، فرزقه الله تعالى خلقا عظيما حتى احتمل المعاملة، وقام معهم بحسن العشرة، وحتى عوتب على عظيم خلقه بقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] وبقوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} [التحريم: 1]. وقال: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6] وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8]. فالذي حمله على هذه المشقة والكلفة العظيمة حسن خلقه وفضل شفقته ورحمته؛ فعظم خلقه أن خلقه جاوز قوى نفسه حتى ضعفت نفسه عن احتماله، وكادت تهلك فيه. وغيره من الخلائق تقصر أخلاقهم عن قوى أنفسهم، ويحتمل إضعاف ما هم عليه من الخلق، وتضيق أخلاقهم عن ذلك، فهذا الذي ذكرنا هو النهاية في العظم. وبالله التوفيق...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وحقيقة الخلُق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

فالخلق: المرور في الفعل على عادة... ومن وصفه الله بأنه على خلق عظيم فليس وراء مدحه مدح.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: {بنعمة ربك} وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} أي لست متكلفا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع.

وقال آخرون: إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}...أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم، فكأن كل واحد منهم كان مختصا بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم.

وفيه دقيقة أخرى وهي قوله: {لعلى خلق عظيم} وكلمة على للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.

المسألة الثانية: الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة. واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير، وسهولة الإتيان بها غير، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن...

وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام، فقرأت "قد أفلح المؤمنون 26 " [المؤمنون: 1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى " وإنك لعلى خلق عظيم"، ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: (وإنك لعلى خلق عظيم).. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: (وإنك لعلى خلق عظيم). ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين! ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد [صلى الله عليه وسلم] تبرز من نواح شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد [صلى الله عليه وسلم] لتلقيها. وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين. إن إطاقة محمد [صلى الله عليه وسلم] لتلقي هذه الكلمة، من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل -ولو أنها ثناء- ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب.. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن.. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل. ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير. وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد، ولا ينتفخ، ولا يتعاظم، وهو الذى سمع ما سمع من العلى الكبير! والله أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد [صلى الله عليه وسلم] بعظمة نفسه هذه -من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها، كما يكون صورة حية منها. إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن، وفي طمأنينة. طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى- بعد ذلك -عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك.. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين. إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها. وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار! ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لهذه الكلمة من ربه، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان.. لقد كان- وهو بشر -يثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم.. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر. إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود. دائرة البشرية ذات الحدود.. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله. وهو يعلم من هو الله. هو بخاصة يعلم من هو الله! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!! إنه محمد- وحده -هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة.. إنه محمد- وحده -هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني. إنه محمد- وحده -هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية؛ حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان.. إنه محمد- وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته -وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه- جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته (إن الله وملائكته يصلون على النبي). وهو -جل شأنه- وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم.. ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية. والناظر في هذه العقيدة، كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء.. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معا للنية والضمير؛ والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور.. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع. وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء. والرسول الكريم يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل. وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية، وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: (وإنك لعلى خلق عظيم).. فيمجد بهذا الثناء نبيه [صلى الله عليه وسلم] كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلق به قلوب الراغبين إليه -سبحانه- وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم. وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق. وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا، وكي يصبحوا أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر).. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد. ثم إنها ليست فضائل مفردة: صدق. وأمانة. وعدل. ورحمة. وبر...

إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله. لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة! وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد [صلى الله عليه وسلم] وتمثلت في ثناء الله العظيم، وقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والخُلُق: طباع النفس، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت، وقد تقدم عند قوله تعالى {إن هذا إلا خلق الأولين} في سورة الشعراء. والعظيم: الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة. و {على} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله {أولئك على هدى من ربهم} ومنه قوله تعالى {إنك على الحق المبين}، {إنك على صراط مستقيم}، {إنك لعلى هدى مستقيم}...

والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن. ولهذا قالت عائشة كان خلقه القرآن... ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من نحو قوله {فبما رحمة من الله لنت لهم} وقوله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وغير ذلك من آيات القرآن. وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} وأمره أن يقول {وأنا أول المسلمين}. فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة. وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله {وإنك لعلى خلق عظيم} فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية... والأخلاق كامنة في النفس، ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومن لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس وحسن الثناء عليه والسمعة. وأما مظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك كله وفي سياسته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " وإنك لعلى خلق عظيم " قال ابن عباس ومجاهد : على خلق ، على دين عظيم من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه . وفي صحيح مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن . وقال علي رضي الله عنه وعطية : هو أدب القرآن . وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه . وقيل : أي إنك على طبع كريم . الماوردي : وهو الظاهر . وحقيقة الخلق في اللغة : هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا ؛ لأنه يصير كالخلقة فيه . وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخِيم ( بالكسر ) : السجية والطبيعة ، لا واحد له من لفظه . وخيم : اسم جبل . فيكون الخلق الطبع المتكلف . والخيم الطبع الغريزي . وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال :

وإذا ذُو الفضول ضنَّ على المولى *** وعادت لخِيمِها الأخلاق

أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها .

قلت : ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال . وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام ، قرأت " قد أفلح المؤمنون{[15223]} " [ المؤمنون : 1 ] إلى عشر آيات ، وقالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ، ولذلك قال الله تعالى " وإنك لعلى خلق عظيم " . ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر . وقال الجنيد : سمي خلقه عظيما ؛ أنه لم تكن له همة سوى الله تعالى . وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، يدل عليه قوله عليه السلام : ( إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ) . وقيل : لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين{[15224]} " [ الأعراف : 199 ] . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : ( أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " [ الأعراف : 199 ] فلما قبلت ذلك منه قال : " إنك لعلى خلق عظيم " .

الثانية- روى الترمذي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . قال حديث حسن صحيح . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء ) . قال : حديث حسن صحيح . وعنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم ) . قال : حديث غريب من هذا الوجه . وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : ( الفم والفرج ) قال : هذا حديث صحيح غريب . وعن عبدالله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال : هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى . وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ) . قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون{[15225]} ، فما المتفيهقون ؟ قال : ( المتكبرون ) . قال : وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[15226]} .


[15223]:راجع جـ 12 ص 103.
[15224]:راجع جـ 7 ص 443.
[15225]:المتشدق: الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم.
[15226]:زيادة عن صحيح الترمذي.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ولما ثبت بهذا العقل مع ما أفاده من الفضل ، وكان الذي يؤجر قد يكون في أدنى رتب العقل ، بين أنه صلى الله عليه وسلم في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى : { وإنك } وزاد في التأكيد لزيادتهم في المكابرة فقال : { لعلى خلق } ولما أفهم{[67369]} السياق التعظيم ، صرح به فقال : { عظيم * } وهو الإسلام الذي دعا إليه القرآن لا بالبلاء ينحرف ، ولا بالعطاء ينصرف{[67370]} ، لأن خلقه - بشهادة أعرف الناس به زوجه أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت الصديق ، أبي بكر رضي الله عنهما - القرآن ، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره ونهيه ، فهذا الخلق نتيجة الهدى والهدى نتيجة العقل ، وهو سبب السعادة ، فأفهم ذلك عدم{[67371]} سعادتهم لعدم عقولهم ، و{[67372]}قال الواسطي : أظهر الله قدرته في عيسى عليه الصلاة السلام ونفاذه في آصف ، وسخطه وقهره في عصى موسى عليه الصلاة والسلام ، وأطهر أخلاقه ونعوته في محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان متخلقاً بأخلاق الله تعالى ، والتخلق بأخلاقه أن ينزه علمه عن الجهل وجوده عن البخل وعدله عن الظلم وحلمه عن السفه ، واعلم أن الخلق والخلق صورتان : الخلق صورة الظاهر ، والخلق صورة الباطن ؛ فتناسب{[67373]} الأعضاء الظاهرة يعبر به عن الخلق الحسن ، وتناسب المعاني الباطنة يعبر به عن الخلق الحسن ، ثم الخلق الحسن تارة مع الله ، وتارة مع حكم الله ، وتارة مع الخلق ، فمع الله بالتعظيم والإجلال ، ومع حكمه {[67374]}بالصبر{[67375]} في الضراء والبأساء{[67376]} والشكر في الرخاء والامتثال للأوامر والانزجار عن النواهي عن طيب قلب مسارعة وسماحة ، وحسن الخلق مع الخلق بث النصفة في المعاملة وحسن المجاملة في العشرة{[67377]} ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه{[67378]} قال :

" الخلق وعاء الدين ، لأن من الخلق يخرج الدين ، وهو الخضوع والخشوع وبذل النفس لله واحتمال المكروه " .

ولما كان الإسلام أشرف الأديان ، أعطاه الله تعالى أقوى الأخلاق وأشرفها وهو الحياء ، كما روي أن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء ، ومن الحياء حياة القلب ، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ العفو{[67379]} ويأمر بالعرف{[67380]} ويعرض عن الجاهلين ولا يجزي {[67381]}بالسيئة السيئة{[67382]} لكن يعفو ويصفح ويحسن مع ذلك ، ويجذب{[67383]} بردته حتى يؤثر في عنقه فيلتفت وهو يضحك ويقضي حاجة الجاذب{[67384]} ويحسن إليه ، فقد اشتمل الكلام التدبيري المشار إليه بالنون والقضاء الكلي التأثيري{[67385]} المشار إليه بالقلم والقدر المبرم التفصيلي الواقع على وقف القضاء المشار إليه بالسطر ، ومثال ذلك أن{[67386]} من أراد بناء دولاب احتاج أولاً{[67387]} إلى مهندس يدبر له بعلمه موضع {[67388]}البئر والمدار{[67389]} وموضع المحلة{[67390]} وموضع السهم وموضع الجداول ونحو ذلك ، وهو الحكم التدبيري{[67391]} ، وثانياً إلى صانع يحفر البئر ويبني ونجار يركب الأخشاب على وفق حكمة المهندس ، وهو القضاء التأثيري ، وثالثاً إلى إقامة الثور في موضعه ، ودوران المحلة بما عليها من القواديس ، وجري الماء في الجداول على وفق القضاء وهو القدر ، ويحتاج رابعاً وخامساً إلى بيان انقسام المقدر له إلى شقي وسعيد ، فالحكم باطن وهو سر من أسراره سبحانه وتعالى - {[67392]}سبحان من لا يعلم قدره غيره{[67393]} .


[67369]:- زيد في الأصل: في، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67370]:- من ظ وم، وفي الأصل: المعرف.
[67371]:- من ظ وم، وفي الأصل: بسبب عداوتهم.
[67372]:-زيد من ظ وم.
[67373]:- من ظ وم، وفي الأصل: فناسب.
[67374]:- من ظ وم، وفي الأصل: حكم الله.
[67375]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالبأساء والضراء.
[67376]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالبأساء والضراء.
[67377]:- زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ وم فحذفناها.
[67378]:- زيدت من ظ وم.
[67379]:- من ظ وم، وفي الأصل: العرف.
[67380]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالمعروف.
[67381]:- من ظ وم، وفي الأصل: السيئة بالسيئة.
[67382]:-من ظ وم، وفي الأصل: السيئة بالسيئة.
[67383]:- من ظ وم، وفي الأصل: يحمل.
[67384]:- من ظ وم، وفي الأصل: الحاجب.
[67385]:- من م، وفي الأصل وظ: التأثير.
[67386]:- في ظ وم: بأن.
[67387]:-زيدت من ظ وم.
[67388]:- من ظ وم، وفي الأصل: المدار والبئر.
[67389]:- من ظ وم، وفي الأصل: المدار والبئر.
[67390]:- من ظ وم، وفي الأصل: القلة.
[67391]:- زيد في الأصل: وتحتاج، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67392]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[67393]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

{ وإنك لعلى خلق عظيم }

{ وإنك لعلى خلق } دين { عظيم } .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

قوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } وهذه شهادة كريمة عليا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو خلق عظيم . لقد كان ( عليه الصلاة والسلام ) تتجلى فيه كل المحاسن من الآداب وكريم الصفات والخصال ، من حياء ومروءة وشجاعة وسخاء وتضحية ، وإيثار وبر ورحمة ولين ونظافة ، فضلا عما يرسخ في أعماقه من طهارة السريرة وسلامة النية ، فكان أخشع الناس قلبا وأصدقهم طوية ، إلى غير ذلك من عظيم الخلال مما لا يتسع لذكره المجال .

وفي حقيقة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام أحمد عن السيدة عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن " .

وثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط . ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته . وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، ولا مسست خزّا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله عز وجل .

وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " .