في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا ؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية ؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه . .

بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق ، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها ، ليردها إلى أصل واحد ، وإلى ميزان واحد ، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق :

( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم . إن الله عليم خبير ) . .

يا أيها الناس . يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا ، المتفرقون شعوبا وقبائل . إنكم من أصل واحد . فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا .

يا أيها الناس . والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم . . من ذكر وأنثى . . وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل . إنها ليست التناحر والخصام . إنما هي التعارف والوئام . فأما اختلاف الألسنة والألوان ، واختلاف الطباع والأخلاق ، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات . وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله . إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . . والكريم حقا هو الكريم عند الله . وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين : ( إن الله عليم خبير ) . .

وهكذا تسقط جميع الفوارق ، وتسقط جميع القيم ، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة ، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر ، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان .

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس . ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون : ألوهية الله للجميع ، وخلقهم من أصل واحد . كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته : لواء التقوى في ظل الله . وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس ، والعصبية للأرض ، والعصبية للقبيلة ، والعصبية للبيت . وكلها من الجاهلية وإليها ، تتزيا بشتى الأزياء ، وتسمى بشتى الأسماء . وكلها جاهلية عارية من الإسلام !

وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة : راية الله . . لا راية الوطنية . ولا راية القومية . ولا راية البيت . ولا راية الجنس . فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام .

قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب . ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان " .

وقال[ صلى الله عليه وسلم ] عن العصبية الجاهلية : " دعوها فإنها منتنة " .

وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي . المجتمع الإنساني العالمي ، الذي تحاول البشرية

في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق ، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم . . الطريق إلى الله . . ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة . . راية الله . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

11

المفردات :

من ذكر وأنثى : من آدم وحواء ، قال إسحاق الموصلي :

الناس في عالم التمثيل أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهم شرف *** يفاخرون به فالطين والماء

شعوبا وقبائل : الشعوب : رؤوس القبائل ، كربيعة ومضر ، والقبائل فروعها .

قال في تفسير المراغي :

والشعوب واحدهم شعب ( بفتح الشين وسكون العين ) ، وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد ، كربيعة ومضر ، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر ، وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع :

الشعب ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، وكل واحد منها يدخل فيما قبله .

فالقبائل تحت الشعوب ، والعمائر تحت القبائل ، والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل .

فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ( بفتح العين وكسرها ) وقصيّ بطن ، وعبد مناف فخذ ، وهاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، وسمي الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة .

التفسير :

13- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .

تأتي هذه الآية في أعقاب الآداب الإسلامية السابقة ، والنهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ، وظن السوء ، والتجسس والغيبة .

والمعنى :

يا كل الناس ، لماذا التعالي على عباد الله ، أو السخرية منهم ، أو غيبتهم ، أو ظن السوء بهم ، إنكم جميعا من أصل واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، فقد خلق الله آدم بيده وزوّجه حواء ، ومن نسل آدم وحواء خلق جميع البشر ، فلماذا التعالي والتفاخر والترفع والتكبر على الآخرين إذا كنتم جميعا من أصل واحد ، ومن إناء واحد ؟

قال صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، ألا هل بلّغت ) ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : ( ليبلّغ الشاهد منكم الغائب )22 .

{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . . . }

الشعوب : الجمهور الكبير من الناس ، والقبائل : العائلات الكبيرة ، ومنها تتفرع الفروع الصغيرة ، تقول : أنا من شعب مصر ، ومن محافظة كذا ، ومن بلدة كذا ، ومن قبيلة كذا ، أو من عائلة كذا ، وبذلك يعرف الناس أنسابهم وأصولهم ، ويحافظون على أنسابهم بالزواج الشرعي ، والبعد عن الزنا والسفاح .

قال صلى الله عليه وسلم : ( ولدت من نكاح ، ولم أولد من سفاح )23 .

وقد كان الناس -عربا أو عجما- عند نزول الآية قبائل متمايزة ، ضمن شعوب تعمهم ، ولكنهم الآن في معظم الأمم قد اختلط بعضهم ببعض ، وأصبح التعارف بينهم بالانتماء إلى الأمم ، وبيان البلدان التي يعيشون فيها ، والمساكن التي يأوون إليها .

{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . }

أي : لقد جعلت النسب للتعارف وصلة الرحم ، وليس للتعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب ، فإن السمو الحقيقي ورفعة المنزلة إنما تكون بتقوى الله ومراقبته ، والعمل بما يرضيه ، والبعد عما نهى الله عنه .

أخرج ابن أبي حاتم ، والترمذي ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال : ( يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية –أي : تكبرها- وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى ، إن الله عز وجل يقول : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) .

وروى مسلم ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )24 .

وعند الطبراني ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه ، وإنما أنتم بنو آدم ، وأحبكم إليه أتقاكم )25 .

{ إن الله عليم خبير } .

هو سبحانه مطلع على القلوب ، عليم بأحوال عباده ، خبير بأفعالهم ، فيثيب من تخلق بهذه الأخلاق ، ويعاقب من أعرض عنها .

في أعقاب التفسير

1- احتج مالك بقوله تعالى : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى . . . } على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج ، إلا الدين ، فيجوز زواج المولى بالعربية ، وقد تزوج سالم مولى امرأة26 من الأنصار امرأة عربية حرة ، حيث تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وأنكحه هند بنت أخيه الوليد بن عتبة ، وتزوج بلال بن رباح أخت عبد الرحمان بن عوف ، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، فالكفاءة إنما تراعى في الدين فقط .

روى أحمد ، وأصحاب الكتب الستة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك )27 .

وقال الجمهور : يراعى الحسب والمال عملا بالأعراف ، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية ، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار .

وأرى أن هذه الأمور متشابكة ، ولا نستطيع الفصل بينها بسهولة .

والحل :

1- أن نعطي للدين والتقوى درجات كبيرة للزوجة والزوج ، مع مراعاة الأمور الأخرى بنسبة ما ، وبذلك نجمع بين ما رآه مالك وما رآه غيره .

2- أورد الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية التي تنهي عن التفاخر ، وتحض على التقوى ، ثم قال : فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية ، وهي طاعة الله ورسوله .

روى البخاري بسنده ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرمهم ؟ قال : ( أكرمهم أتقاهم ) ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : ( فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إبراهيم خليل الله ) ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : ( فعن معادن العرب تسألون ) ؟ قالوا : نعم ، قال : ( خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )28 .

3- وردت أحاديث نبوية كريمة في معنى الآية ، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجُعْلان )29 .

وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا ، فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم ، وأبيتم إلا أن تقولوا : فلان ابن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبي لأضع أنسابكم ، أين المتقون ) ؟

وفي صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا : ( إن أولياء أبي ليسوا لي بأولياء ، إن وليي الله وصالحو المؤمنين )30 .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

الشعوب : جمع شعب وهو الحيّ العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومُضَر ، والقبيلة دونه ، وسُمي الشَعب شَعباً لتشعب القبائل منه كتشعب الأغصان من الشجرة .

بعد أن أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا أن الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة ، فكيف يسخَر الأخ من أخيه أو يغتابه أو يظلمه ! ؟ وبين للناس أن القرآن يدعو إلى أمةٍ إنسانية واحدة ، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة ، وأعلن هنا حقوقَ الإنسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه ، فالناس إخوة في النسَب ، كرامتُهم محفوظة ، والإنسان مخلوق الله المختار ، وهو خليفته في الأرض .

يا أيها الناس : إنّا خلقناكم متساوين من أصلٍ واحد هو آدم وحواء ، وجعلناكم جموعا عظيمة ، شعوباً وقبائل متعددة ، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم ، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } بكم وبأعمالكم وبباطن أحوالكم ، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ 13 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }

يخبر تعالى أنه خلق بني آدم ، من أصل واحد ، وجنس واحد ، وكلهم من ذكر وأنثى ، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء ، ولكن الله [ تعالى ] بث منهما رجالاً كثيرا ونساء ، وفرقهم ، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي : قبائل صغارًا وكبارًا ، وذلك لأجل أن يتعارفوا ، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه ، لم يحصل بذلك ، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون ، والتوارث ، والقيام بحقوق الأقارب ، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل ، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها ، مما يتوقف على التعارف ، ولحوق الأنساب ، ولكن الكرم بالتقوى ، فأكرمهم عند الله ، أتقاهم ، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي ، لا أكثرهم قرابة وقومًا ، ولا أشرفهم نسبًا ، ولكن الله تعالى عليم خبير ، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ، ظاهرًا وباطنًا ، ممن يقوم بذلك ، ظاهرًا لا باطنًا ، فيجازي كلا ، بما يستحق .

وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب ، مطلوبة مشروعة ، لأن الله جعلهم شعوبًا وقبائل ، لأجل ذلك .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء...

وقوله:"وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا "يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا فالمناسب النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ، وهما كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ونحو ذلك.. عن ابن عباس وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع، والقبائل: البطون...

عن سعيد بن جُبَير وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ...

عن مجاهد، قوله: شُعُوبا قال: النسب البعيد. وَقَبائِلَ دون ذلك...

وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ...

وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ... وقال آخرون: الشعوب: الأنساب...

وقوله: "لِتَعارَفُوا" يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم...

وقوله: "إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ" يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة...

وقوله: "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى} يخرّج تأويل الآية إلى وجهين:

أحدهما: إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، وهو آدم حواء عليهما السلام فيكونون جميعا إخوة وأخوات، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جُعلت لهم؛ إنما القبائل وما ذكر للتعارُف، والفضيلة والكرامة في ما ذكر: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} معا لو كان في ذلك فضيلة وافتخار. فالكل في النسبة إليهم على السواء، فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار.

والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع والحر والعبد والذّكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعا من نطفة مَدَرة مُنتِنة، تستقذرها الطباع. ذكر هذا ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، والله أعلم...

ثم قوله تعالى: {لتعارفوا} أي جعل فيكم هذه القبائل ليعرف بعضكم بعضا بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ!؛ فيقال: فلان التّيميّ، والهاشميّ، إن كل أحد لا يُعرف إلا بأبيه وجدّه...

ثم قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} بيّن الله تعالى بما به تكون الفضيلة والكرامة، وهو التقوى لا في ما يرون، ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. بدأ بذكر الخلق من ذَكَرٍ وَأنثى وهما آدم وحواء، ثم جعلهم شعوباً يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم، ثم جعلهم قبائل وهم أخصّ من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم، ليتعارفوا بالنسبة، كما خالف بين خِلَقِهِمْ وصُوَرِهم ليعرف بعضهم بعضاً. ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب، إذ كانوا جميعاً من أب وأم واحدة؛ ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره، فبيّن الله تعالى ذلك لنا لئلا يفخر بعضنا على بعض بالنسب، وأكّد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}، فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تُستحق بتقوى الله وطاعته...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض. فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم}...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}...

فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم...

. إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى لأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما صالحا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يا أيها الناس} أي كافة المؤمن وغيره {إنا} على عظمتنا وقدرتنا {خلقناكم} أي أوجدناكم عن العدم على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي يفوت الحصر، وأخرجنا كل واحد منكم {من ذكر} هو المقصود بالعزم والقوة {وأنثى} هي موضع الضعف والراحة، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر، ولا فخر في نسب...

. {وجعلناكم} أي بعظمتنا {شعوباً} تتشعب من أصل واحد...

{وقبائل} تحت الشعوب...

{لتعارفوا} أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا...

. {إن أكرمكم} أيها المتفاخرون {عند الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسباً ولذلك أكده...

. {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم بالظواهر {خبير} محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يخبر تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم، بالتطلع إلى الله وتقواه..

بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها، ليردها إلى أصل واحد، وإلى ميزان واحد، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير)..

يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.

يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إن الله عليم خبير)..

وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!

وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.

قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب. ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان".

وقال [صلى الله عليه وسلم] عن العصبية الجاهلية: " دعوها فإنها منتنة".

وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي، الذي تحاول البشرية

في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم.. الطريق إلى الله.. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة.. راية الله..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية... فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.

فعن أبي داود أنه روى في كتابه « المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار) امرأةً منهم فقالوا: تزوج بناتنا موالينَا، فأنزل الله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.

ونُودوا بعنوان {الناس} دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}. فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب {يا أيها الناس} إنما كان في المكي.

والمراد بالذَكَر والأنثى: آدم وحواء أبَوَا البشر، بقرينة قوله {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً. فيكون تنوين (ذكر وأنثى) لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.

ويجوز أن يراد ب {ذكر وأنثى} صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى...

واقُتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.

وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جرياً على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.

وجعلت علة جَعْل الله إياه شعوباً وقبائل وحكمتهُ من هذا الجَعل أن يتعارف الناس، أي يعرِف بعضهم بعضاً.

والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر، والعمائِر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.

فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.

والمقصود: أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان...

وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.

ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عَمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعتْه الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله: {لتعارفوا} ثم وأتبعه بقوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].

والخبر في قوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.

وأما جملة {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.

والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.

ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال: " يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى"...

وجملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضاً إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب {عند الله} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.

والمراد بالأكرم: الأنْفَس والأشَرف، كما تقدم بيانه في قوله: {إني ألقي إلى كتاب كريم} في سورة [النمل: 29].

والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس.

وجملة {إن الله عليم خبير} تعليل لمضمون {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله: {الله أعمل حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].

علم أن قوله: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»

فإن في خلق الأنباء آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.

وجملة {إن الله عليم خبير} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } أي كلكم بنو أب واحد وأم واحدة فلا تفاضل بينكم في النسب { وجعلناكم شعوبا } وهي رؤوس القبائل كربيعة ومضر { وقبائل } وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر { لتعارفوا } ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا لتتفاخروا بها ثم أعلم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم فقال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الآية

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

فيه سبع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الناس إنا خلقناكم بن ذكر وأنثى " يعني آدم وحواء . ونزلت الآية في أبي هند ، ذكره أبو داود في ( المراسيل ) ، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل : " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا " الآية . قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة . وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس . وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له : ابن فلانة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من الذاكر فلانة ] ؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ انظر في وجوه القوم ] فنظر ، فقال : [ ما رأيت ] ؟ قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : [ فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ] فنزلت في ثابت هذه الآية . ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له : " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " {[14121]} [ المجادلة : 11 ] الآية . قال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم . قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى . أي الجميع من آدم وحواء ، إنما الفضل بالتقوى . وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عَيْبَة الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " ) . خرجه من حديث عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف ، ضعفه يحيى بن معين وغيره . وقد خرج الطبري في كتاب ( آداب النفوس ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال : حدثني أو حدثنا من شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : [ أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب ] . وفيه عن أبو مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم ] . ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره :

الناس من جهة التمثيل أكفاءُ *** أبوهم آدم والأم حواءُ

نفس كنفس وأرواح مشاكلة *** وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاء

فإن يكن لهم من أصلهم حسب *** يفاخرون به فالطين والماء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدِلاَّءُ

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** وللرجال على الأفعال سيماء

وضد كل امرئ ما كان يجهله *** والجاهلون لأهل العلم أعداء

الثانية- بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى ، وكذلك في أول سورة " النساء " {[14122]} . ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم ، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام ، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين . وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود . وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه ، فلعله هذا القسم ، قاله ابن العربي .

الثالثة- خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا ، وخلق لهم منها التعارف ، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها ، فصار كل أحد يحوز نسبه ، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه ، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه ، بقول للعربي : يا عجمي ، وللعجمي : يا عربي ، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة . انتهى .

الرابعة- ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده ، ويتربى في رحم الأم ، ويستمد من الدم الذي يكون فيه . واحتجوا بقوله تعالى : " ألم نخلقكم من ماء مهين . فجعلناه في قرار مكين " {[14123]} [ المرسلات : 21 ] . وقوله تعالى : " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " {[14124]} [ السجدة :8 ] . وقوله : " ألم يك نطفة من مني يمنى " {[14125]} [ القيامة :37 ] . فدل على أن الخلق من ماء واحد . والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية ، فإنها نص لا يحتمل التأويل . وقوله تعال : " خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب " {[14126]} [ الطارق : 6 ] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء ، على ما يأتي بيانه . وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر . فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا . وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل ، وعن ذلك يكون الشبه ، حسب ما تقدم بيانه في آخر " الشورى " {[14127]} . وقد قال في قصة نوج : " فالتقى الماء على أمر قد قدر " {[14128]} [ القمر : 12 ] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض ، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين ، فلا ينكر أن يكون " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " [ السجدة :8 ] . وقوله تعالى : " ألم نخلقكم من ماء مهين " [ المرسلات : 21 ] ويريد ماءين . والله أعلم .

الخامسة- قوله تعالى : " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " الشعوب رؤوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، وأحدها شَعْب بفتح الشين ، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة . والشعب من الأضداد ، يقال شعبته إذا جمعته ، ومنه المشعب ( بكسر الميم ) وهو الإشفى ، لأنه يجمع به ويشعب . قال :

فكَابٍ على حُرِّ الجبين ومُتَّقٍ *** بمَدْرِيَةٍ كأنه ذَلْقُ مِشْعَبِ{[14129]}

وشعبته إذا فرقته ، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة . فأما الشعب ( بالكسر ) فهو الطريق في الجبل ، والجمع الشعاب . قال الجوهري : الشعب : ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب . والشعوبية : فرقة لا تفضل العرب على العجم . وأما الذي في الحديث : أن رجلا من الشعوب أسلم{[14130]} ، فإنه يعني من العجم . والشعب : القبيلة العظيمة ، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه ، أي يجمعهم ويضمهم . قال ابن عباس : الشعوب الجمهور{[14131]} ، مثل مضر . والقبائل الأفخاذ . وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك . وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب . وقال قتادة . ذكر الأول عنه المهدوي ، والثاني الماوردي . قال الشاعر{[14132]} :

رأيت سعودا من شعوب كثيرة *** فلم أر سعداً مثل سعد بن مالك

وقال آخر :

قبائل من شعوب ليس فيهم *** كريم قد يعدّ ولا نجيب

وقيل : إن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان . وقيل : إن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب . وقال ابن عباس في رواية : إن الشعوب الموالي ، والقبائل العرب . قال القشيري : وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل{[14133]} والترك ، والقبائل من العرب . الماوردي : ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشركون في الأنساب . قال الشاعر :

وتفرقوا شُعَبًا فكل جزيرة *** فيها أمير المؤمنين ومنبر

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه : الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ . وقيل : الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة ، وقد نظمها بعض الأدباء فقال :

اِقصد الشعب فهو أكثر حي *** عددا في الحواء ثم القبيله

ثم تتلوها العمارة ثم ال *** بطن والفخذ بعدها والفصيله

ثم من بعدها العشيرة لكن *** هي في جنب ما ذكرناه قليله

وقال آخر :

قبيلة قبلها شعب وبعدهما *** عمارة ثم بطن تِلْوُه فَخِذُ

وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته *** ولا سداد لسهم مالهُ قُذَذُ{[14134]}

السادسة- قوله تعالى : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقد تقدم في سورة " الزخرف " عند قوله تعالى : " وإنه لذكر لك ولقومك " {[14135]} [ الزخرف : 44 ] . وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب . وقرئ " أن " بالفتح . كأنه قيل : لم يتفاخر بالأنساب ؟ قيل : لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم . وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الحسب المال والكرم التقوى ) . قال : هذا حديث حسن غريب صحيح . وذلك يرجع إلى قوله تعالى : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام : ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ) . والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا ، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به ، والتنزه عما نهاك عنه . وقد مضى هذا في غير موضع . وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون ) . وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب . يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا ) . وأعرض في كل عطفيه . وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول : ( إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : ( يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : ( فأكرمهم عند الله أتقاهم ) فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال : ( عن معادن العرب ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) وأنشدوا في ذلك :

ما يصنع العبد بعزِّ الغنى *** والعز كل العز للمتقي

من عرف الله فلم تغنه *** معرفةُ الله فذاك الشقي

السابعة-ذكر الطبري حدثني عمر{[14136]} بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال : تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها ، فقال الرجل : إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة ) . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ) ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى . قال ابن العربي : وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح . روى عبد الله عن مالك : يتزوج المولى العربية ، واحتج بهذه الآية . وقال أبو حنيفة والشافعي : يراعى الحسب والمال . وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا{[14137]} بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار . وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود .

قلت : وأخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال . وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة . فدل على جواز نكاح الموالي العربية ، وإنما تراعى الكفاءة في الدين . والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال : ( ما تقولون في هذا ) ؟ فقالوا : حَري إن خطب أن يُنكَح ، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع . قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : ( ما تقولون في هذا ) قالوا : حري إن خطب ألا يُنْكَح ، وإن شفع ألا يُشَفّع ، وإن قال ألا يُسمَع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك ) . وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه ، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه ، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان . وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها ، قال بلال : يا رسول الله ، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بلال ، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا : ماذا لقينا من سببك ؟ فقالت أختهم : أمري بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجوها . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هند حين حجمه : ( أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ) . وهو مولى بني بياضة . وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنكحوه وأنكحوا إليه ) . قال القشيري أبو نصر : وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح . والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب ، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما ، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى .


[14121]:آية 11 سورة المجادلة.
[14122]:راجع ج 5 ص 1 وما بعدها.
[14123]:آية 20، 21 سورة المرسلات.
[14124]:آية 8 سورة السجدة.
[14125]:آية 37 سورة القيامة.
[14126]:آية 6، 7 سورة الطارق.
[14127]:راجع ص 50 من هذا الجزء.
[14128]:آية 12 سورة القمر.
[14129]:قوله:" فكاب على حر الجبين" أي خار على وجهه. و"المدرية": القرن، وهي المدرى والمدارة، والجمع مدار ومدارى. و" ذلق" ذلق كل شيء: حدّه. و"مشعب" مثقب.
[14130]:تمام الحديث كما في اللسان:" فكانت تؤخذ منه الجزية؛ فأمر عمر ألا تؤخذ منه".
[14131]:هذا القول منسوب إلى ابن جبير. والمأثور عن ابن عباس أن " الشعوب الجماع" والجماع (بضم الجيم وتشديد الميم): مجتمع أصل كل شيء. أراد: منشأة وأصل المولد. وقيل: أراد به الفرق المختلفة من الناس.
[14132]:هو طرفة بن العبد.
[14133]:الجبل: الأمة من الخلق والجماعة من الناس؛ وفيه لغات كثيرة. راجع ج 15 ص 47 من هذا التفسير.
[14134]:القذذ(جمع قذة): ريش السهم.
[14135]:راجع ص 93 من هذا الجزء.
[14136]:في بعض النسخ:" عمرو".
[14137]:وتسمى فاطمة.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

قوله تعالى : { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } .

قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس ، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من الذاكر فلانة ؟ " فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله . فقال : " انظر في وجوه القوم " فنظر ، فقال : " ما رأيت يا ثابت ؟ " فقال : رأيت أبيض وأحمر وأسود . قال : " فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى " فأنزل الله تعالى الآية .

وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذّن على ظهر الكعبة . فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ؟ وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء . فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا ، فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية . وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء{[4301]} .

والمعنى المراد . أن الناس جميعا أصلهم واحد ، فأبوهم آدم وأمهم حواء فلا يفضل أحد الناس غيره إلا بالتقوى . وإنما المدار في كل الأحوال والأزمان والأعراف على التقوى دون غيرها من قياسات البشر وأهوائهم واعتبارتهم . وفي هذا روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : " يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل برّ تقيّ كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب " . قال الله : { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والشعوب جمع شعب وهو ما تشعب من قبائل العرب والعجم . وهو أيضا القبيلة العظيمة . وقيل : أكبرها الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ{[4302]} .

لقد جعل الله الناس هكذا ليتعارفوا أو ليعرف بعضهم بعضا في النسب والقرابة فيتسمى كل واحد باسمه ونسبه ويرد إلى قبيلته أو شعبه أو فصيلته فيقال : فلان ابن فلان من كذا أو كذا ، أي من قبيلة كذا و كذا . فما ينبغي أن يكون ثمة فوضى في الذراري والقربات والأنساب بل يرجع كل واحد إلى من ينتسب إليهم من الآباء والقبائل والعائلات دون لبس أو خلط أو تدليس أو فوضى . وذلكم هو الوضع الحقيقي السليم للبشر ومن بعد ذلك إنما تكون المقادير والاعتبارات والقياسات تبعا للتقوى . وهو قوله سبحانه : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فخير الناس وأفضلهم وأقربهم إلى الله أكثرهم تقوى . والمراد بالتقوى : الخوف من الله ثم التزام أوامره واجتناب نواهيه . وهذه حقيقة تتجلى كثيرا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث . منها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ولا لأحمر على أسود ، إلا بالتقوى . ألا هل بلّغت ؟ " قالوا : نعم . قال : " ليبلغ الشاهد الغائب " وروى مسلم عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله " .

وروى البزار في مستنده عن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان " .

قوله : { إن الله عليم خبير } الله عليم بأحوال العباد وأخبارهم وما تكنه صدورهم من الخوافي وما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال وهو سبحانه لا تخفى عليه البواطن والظواهر{[4303]} .


[4301]:أسباب النزول للنيسابوري ص 264.
[4302]:مختار الصحاح ص 338.
[4303]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 317 وتفسير القرطبي جـ 16 ص 340- 348.