والقضية الثانية هي قضية الشركاء . وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك . وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس ، المجازي لها بما كسبت في الحياة . وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة . وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام !
( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ? وجعلوا لله شركاء . قل : سموهم . أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? أم بظاهر من القول ? بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد . لهم عذاب في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشق ، وما لهم من الله من واق ) . .
( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها . تلك عقبى الذين اتقوا . وعقبى الكافرين النار ) . .
والله سبحانه رقيب على كل نفس ، مسيطر عليها في كل حال ، عالم بما كسبت في السر والجهر . ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية - على طريقة القرآن - صورة ترتعد لها الفرائص :
( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) . .
فلتتصور كل نفس أن عليها حارسا قائما عليها مشرفا مراقبا يحاسبها بما كسبت . ومن ? إنه الله ! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق ، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات .
أفذلك كذلك ? ثم يجعلون لله شركاء ? ! هنا يبدو تصرفهم مستنكرا مستغربا في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب .
الله القائم على كل نفس بما كسبت ، لا تفلت منه ولا تروغ .
( قل : سموهم ) ! فإنهم نكرات مجهولة . وقد تكون لهم أسماء . ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها .
( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ? ) . . يا للتهكم ! أم إنكم أنتم بشر تعلمون ما لا يعلمه الله ? فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض ، وغاب هذا عن علم الله ? ! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها . ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال ، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة ، فيدعون وجودها وقد نفاه الله !
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول . وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول ? !
وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل :
( بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن السبيل ، ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى ، فحقت عليهم سنة الله ، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب ، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل ، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم . ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد ، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
يقول تعالى ذكره : أفالربّ الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال ، رقيت عليهم ، لا يعزُب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ، ولا يَدْفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرّا ، ولا يجلب إليهما نفعا ؟ كلاهما سواء . وحُذِف الجواب في ذلك فلم يَقُل وقد قيل أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ككذا وكذا ، اكتفاء بعلم السامع بما ذُكِر عما تُرِك ذكره . وذلك أنه لمّا قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ عُلم أن معنى الكلام كشركائهم التي اتخذوها آلهة ، كما قال الشاعر :
تَخَيّرِي خُيّرْتِ أُمّ عالِ *** بينَ قَصِيرٍ شَبْرُهُ تِنْبالِ
أذَاكِ أمْ مُنْخَرِقُ السّرْبَالِ *** وَلا يَزالُ آخِرَ اللّيالي
*** مُتْلِفَ مالٍ ومُفِيدَ مالِ ***
ولم يقل : وقد قال : «شَبْرُه تنبال » ، وبين كذا وكذا ، اكتفاء منه بقول : أَذَاكَ أمْ مُنْخَرِق السّرْبالِ ، ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ذلكم ربكم تبارك وتعالى ، قائم على بني آدم بأرزاقهم وآجالهم ، وحفظ عليهم والله أعمالهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يعني بذلك نفسه ، يقول : هو معكم أينما كنتم ، فلا يعمل عامل إلا وهو حاضر . ويقال : هم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتْ على رزقهم وعلى طعامهم ، فأنا على ذلك قائم وهم عبيدي ثم جعلوا لي شركاء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر ، يرزقهم ويكلؤهم ، ثم يُشرك به منهم من أشرك .
وقوله : وَجَعَلَوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول تعالى ذكره : أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين ، والمدبر أمورهم ، والحافظ عليهم أعمالهم ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدونها دوني ، قل لهم يا محمد : سَمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله ، فإنهم إن قالوا آلهة فقد كذبوا ، لأنه لا إله إلا الواحد القهّار لا شريك له . أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ يقول : أتخبرونه بأن في الأرض إلها ، ولا إله غيره في الأرض ولا في السماء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سموهم آلهة لكذبوا وقالوا في ذلك غير الحق لأن الله واحد ليس له شريك ، قال الله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : لا يعلم الله في الأرض إلها غيره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ والله خلقهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سَمّوْهم كذبوا ، وقالوا في ذلك ما لا يعلم الله من إله غير الله فذلك قوله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مسموع ، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . غير أنهم قالوا : أم بظاهر ، معناه : أم بباطل ، فأتوا بالمعنى تدلّ عليه الكلمة دون البيان عن حقيقة تأويلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بظنّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن قتادة ، قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ والظاهر من القول : هو الباطل .
حْدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : أم بباطل من القول وكذب ، ولو قالوا ، قالوا الباطل والكذب .
وقوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ يقول تعالى ذكره : ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض ، ولك زُين للمشركين الذي يدعون من دون إله مكرُهم ، وذلك افتراؤهم وكذبهم على الله . وكان مجاهد يقول : معنى المكر ههنا : القولُ ، كأنه قال : قولهم بالشرك بالله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال : قولهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وأما قوله : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ بضمّ الصاد ، بمعنى : وصدّهم الله عن سبيله لكفرهم به ، ثم جعلت الصاد مضمومة ، إذ لم يسمّ فاعله . وأما عامّة قرّاء الحجاز والبصرة ، فقرءوه بفتح الصاد ، على معنى أن المشركين هم الذين صَدّوا الناس عن سبيل الله .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، متقاربتا المعنى وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به ، وهم مع ذلك كانوا يَصُدّون غيرهم ، كما وصفهم الله به بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ .
وقوله : وَمَنْ يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ يقول تعالى ذكره : ومن أضله الله عن إصابة الحقّ والهدى بخذلانه إياه ، فما له أحد يَهْديه لإصابتهما لأن ذلك لا يُنال إلاّ بتوفيق الله ومعونته ، وذلك بيد الله وإليه دون كلّ أحد سواه .
هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله : { وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو } [ الرعد : 30 ] والمعنى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر ؟ - هذا تأويل - ويظهر أن القول مرتبط بقوله : { وجعلوا لله شركاء } كأن المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا{[6972]} ؟ .
و «الأنفس » من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع . ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه{[6973]} .
وقوله : { قل سموهم } أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر : هل تعلمون الله { بما لا يعلم } ؟ .
وقرأ الحسن : «هل تنْبئونه » بإسكان النون وتخفيف الباء و { أم } هي بمعنى : بل ، وألف الاستفهام - هذا مذهب سيبويه - وهي كقولهم : إنها لإبل أم شاء .
ثم قررهم بعد ، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر ، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال ، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له .
وقرأ الجمهور «زُين » على بناء الفعل للمفعول «مكرُهم » بالرفع ، وقرأ مجاهد «زَين » على بنائه للفاعل «مكرَهم » بالنصب ، أي زين الله ، و { مكرهم } : لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وصُدوا » بضم الصاد ، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا ، وفي «حم المؤمن »{[6974]} - بفتحها ، وذلك يحتمل أن يكون «صَدوا » أنفسهم أو «صدوا » غيرهم ، وقرأ يحيى بن وثاب : «وصِدوا » بكسر الصاد{[6975]} .
الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة . فتقدير أصل النظم : فأمن هو قائم . فالفاء لتفريع الاستفهام وليس الاستفهام استفهاماً على التفريع ، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحقيقين ، خلافاً لمن يجعلون الاستفهام وارداً على حرف العطف وما عَطفه .
فالفاء تفريع على جملة { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت } [ الرعد : 30 ] المجابِ به حكاية كفرهم المضمن في جملة { وهم يكفرون بالرحمن } [ الرعد : 30 ] ، فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين : كفرهم بالله ، وإيمان النبي بالله .
ويجوز أن تكون تفريعاً على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] ، فيكون ترقياً في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن ، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلاً لمن جعلوهم لله شركاء .
واعتُرض أثرَ ذلك بردّ سُؤالهم أن تُسيّر الجبال أو تُقَطّع الأرض أو تُكلّم الموتى ، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري .
وللمفسرين في تصوير نظم الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة ، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفاً يدل عليه ما هو مذكور فيه ، أو يدل عليه السياق . والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله : { وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو } أي أن كفرهم بالرحمان وإيمانك بأنه ربّك المقصورة عليه الربوبية يُتفرع على مجموع ذلك استفهامُهم استفهامَ إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كلّ نفس بمن ليس مثله من جعلوهم له شركاء ، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا سواء مع الله .
وما صدق { من هو قائم على كلّ نفس } هو الله الإله الحق الخالق المدبّر .
وخبر { من هو قائم } محذوف دلت عليه جملة { وجعلوا لله شركاء } . والتقدير : أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة . دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة . والاستفهام إنكار لتلك التسوية المفاد من لفظ { شركاء } . وبهذا المحذوف استغني عن تقدير معادل للهمزة كما نبّه عليه صاحب « مغني اللّبيب » ، لأن هذا المقدّر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الّذي حاصله أن يقدر : أم من ليس كذلك . وسيأتي قريباً بيان موقع { وجعلوا لله شركاء } .
والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله : { أفمن هو قائم } لأن في الصلة دليلاً على انتفاء المساواة ، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية ، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق .
والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريباً .
والقائم على الشيء : الرقيب ، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد ، ولتضمنه معنى الرقيب عدي بحرف { على } المفيد للاستعلاء المجازي . وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } [ سورة آل عمران : 75 ] . ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم .
فمعنى { قائم على كل نفس } مُتولّيها ومدبّرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق ، والعالم بأحوالها وأعمالها ، فكان إطلاق وصف { قائم } هنا من إطلاق المشترك على معنييه . والمشكرون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره ، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله : { على كل نفس } ليعم القيام سائر شؤونها .
والباء في قوله : { بما كسبت } للملابسة . وهي في موقع الحال من { نفس } أو من { قائم } باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم ، أي قياماً ملابساً لما عملته كل نفس ، أي قياماً وفاقاً لأعمالها من عمل خير يقتضي القيامَ عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 97 ] ، وقال : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } [ سورة النور : 55 ] ؛ أو من عَمَل شر يقتضي قيامَه على النفس بالغضب والبلايا . ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين . فهذا تعريض بالأمرين للفريقين أفادته صلة الموصول .
وجملة { وجعلوا لله شركاء } في موضع الحال ، والواو للحال ، أي والحال جعلوا له شركاء .
وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير { من هو قائم } . وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العَلَم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العَلَم ، وليكون تصريحاً بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة .
وجملة { قل سموهم } استئناف أعيد معها الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوَعي ما سيذكر . وهذه كلمة جامعة ، أعني جملة { سموهم } ، وقد تضمنت رداً عليهم . فالمعنى : سموهم شركاء فليس لهم حظ إلا التسمية ، أي دون مسمى الشريك ، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بادعائهم أنهم شركاء مثل { قل كونوا حجارة } [ سورة الإسراء : 50 ] ، وكما تقول للذي يخطىء في كلامه : قُل ما شئتَ . والمعنى : إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسمياتٍ لها بوصف الإلهيّة لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف . وهذا كقوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ سورة يوسف : 40 ] وقوله : { إن هي إلا أسماء سميتموها } [ سورة النجم : 23 ] . وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألّهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك ، كقوله تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } [ سورة الرعد : 16 ] . وقد تمحل المفسرون في تأويل { قل سموهم } بما لا مُحَصّل له من المعنى .
ثم أضرب عن ذلك بجملة { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } وهي { أم } المنقطعة . ودَلت { أم } على أن ما بعدها في معنى الاستفهام ، وهو إنكاري توبيخي ، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم لوجودهم ، فقوله : { بما لا يعلم في الأرض } كناية عن غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجوداً لم يَخْفَ على علم العلام بكل شيء . وتقييد ذلك ب { الأرض } لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفى عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم .
وفي سورة يونس ( 18 ) { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } زيادة في التعميم .
وأم } الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في { أم تنبئونه } . وإعادة الباء للتأكيد بعد { أم } العاطفة . والتقدير : بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول .
وليس الظاهر هنا مشتقاً من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظُور بمعنى الزوال كناية عن البطلان ، أي بمجرد قبول لا ثبات له وليس بحق ، كقول أبي ذؤيب :
أعيّرْتَنا ألبانها ولحومها *** وذلك عارياً يا ابنَ رَيْطة ظاهر
وقوله : { بل زين للذين كفروا مكرهم } إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية أصنامهم إلى كشف السبب ، وهو أن أيمة المشركين زيّنوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ وضعوا لهم عبادتَها .
والمكر : إخفاء وسائل الضر . وتقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في أوائل سورة آل عمران ( 54 ) ، وعند قوله : { أفأمنوا مكر الله } في سورة الأعراف ( 99 ) ، وعند قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } في سورة الأنفال ( 30 ) . والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عَمْرو بن لُحَيّ وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسّنوها إليهم مظهرين لهم أنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودُوهم ويُعبّدوهم .
فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلاً منويّاً كان قوله : { زين للذين كفروا } في قوة قولك : زيّن لهم مزين . والشيء المزيّن ( بالفتح ) هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول ، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى ، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى ، فتعيّن أن المكر مراد به عبادة الأصنام .
وبهذا يتجه أن يكون إضافة ( مكر ) إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو المجرور بباء التعدية ، أي المكر بهم ممن زينوا لهم .
وقد تضمن هذا الاحتجاح أساليب وخصوصيات :
أحدها : توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياساً فاسداً لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك .
ثانيها : تبهيلهم في جعلهم أسماءَ لا مسمياتٍ لها آلهةً .
ثالثها : إبطال كون أصنامهم آلهة بأن الله لا يعلمها آلهة ، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها .
رابعها : أن ادعاءهم آلِهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع ، وهو قوله : { أم بظاهر من القول } .
خامسها : أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر ، وهو معنى تسميته مكراً في قوله : { بل زين للذين كفروا مكرهم } .
سادسها : أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى .
وعُطف { وصدوا عن السبيل } على جملة { زين للذين كفروا مكرهم } . وقرأه الجمهور بفتح الصاد فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين : فالأولى باعتبار كونهم مفعولين ، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصدّ بعد أن انفعلوا بالكفر . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف { وصدوا } بضم الصاد فهو كجملة { زين للذين كفروا } في كون مضمون كلتيهما جعْل الذين كفروا مفعولاً للتزيين والصدّ .
وجملة { ومن يضلل الله فما له من هاد } تذييل لما فيه من العموم .
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء { هاد } في حالة الوصل عند قوله تعالى : { ولكل قوم هاد } في هذه السورة ( 7 ) .