في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

148

ولا يترك السياق الموقف مع اليهود ، حتى ينصف القليل المؤمن منهم ؛ ويقرر حسن جزائهم ، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق ، ويشهد لهم بالعلم والإيمان ، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله : ما أنزل إلى الرسول [ ص ] وما أنزل من قبله ، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان :

( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك . والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا ) . .

فالعلم الراسخ ، والإيمان المنير ، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله . كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد .

وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك ؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين . فالعلم السطحي كالكفر الجاحد ، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة . . ونحن نشهد هذا في كل زمان . فالذين يتعمقون في العلم ، ويأخذون منه بنصيب حقيقي ، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية ؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة ، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا ، وذا إرادة واحدة ، وضعت ذلك الناموس الواحد . . وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح الله عليهم ، وتتصل أرواحهم بالهدى . . أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء ، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان ، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام . وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق . . وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان ، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد ، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين .

وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني - أول من تعني - أولئك النفر من اليهود ، الذين استجابوا للرسول [ ص ] وذكرنا أسماءهم من قبل ، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين ، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير . .

ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين ، الذين تعينهم صفاتهم :

( والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) .

وهي صفات المسلمين التي تميزهم : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالله واليوم الآخر . . وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم .

أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا . .

ونلاحظ أن ( المقيمين الصلاة ) تأخذ إعرابا غير سائر ما عطفت عليه . وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى - وأخص المقيمين الصلاة - ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم ، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة . وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة : والمقيمون الصلاة في مصحف عبدالله بن مسعود .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أُوْلََئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } . .

هذا من الله جلّ ثناؤه استثناء ، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات التي مضت من قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ ثم قال جلّ ثناؤه لعباده ، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده : ما كُلّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم ، لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه ، وأتقنوا ذلك ، وعرفوا حقيقته . وقد بينا معنى الرسوخ في العلم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وَالمُؤْمِنُونَ يعني : والمؤمنون بالله ورسله ، وهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك يا محمد ، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل ، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الجهلة منهم أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، لأنهم قد علموا بما قرءوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم ، أنك لله رسول واجب عليهم اتباعك ، لا يسعهم غير ذلك ، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ، ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من أخبار أنبيائهم إياهم بذلك وبما أعطيتك من الأدلة على نبوّتك ، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ من الكتاب و ب بما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ استثنى الله ثَنِيّةً من أهل الكتاب ، وكان منهم من يؤمن بالله ، وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبيّ الله ، يؤمنون به ويصدّقون به ، ويعلمون أنه الحقّ من ربهم .

ثم اختلف في المقيمين الصلاة ، أهم الراسخون في العلم ، أم هم غيرهم ؟ فقال بعضهم : هم هم . ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب الراسخون في العلم ، وهما من صفة نوع من الناس ، فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمقيمون الصلاة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الزبير ، قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان : ما شأنها كتبت لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمُقِيمِينَ الصّلاةَ ؟ قال : إن الكاتب لما كتب لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له اكتب والمُقِيمِينَ الصّلاةَ فكتب ما قيل له .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة عن قوله : وَالمُقِيمِينَ الصّلاةَ ، وعن قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ ، وعن قوله : إنّ هَذَانِ لَساحِرَانِ فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب .

وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «والمُقِيمُونَ الصّلاةَ » .

وقال آخرون ، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة : والمقيمون الصلاة من صفة الراسخون في العلم ، ولكن الكلام لما تطاول واعترض بين الراسخين في العلم والمقيمن الصلاة ما اعترض من الكلام فطال نصب المقيمين على وجه المدح ، قالوا : والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته إذا تطاولت بمدح أو ذمّ خالفوا بين إعراب أوّله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوّله ، وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه ، وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب . واستشهدوا لقولهم ذلك بالاَيات التي ذكرناهاا في قوله : والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضّرّاءِ .

وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة من صفة غير الراسخين في العلم في هذا الموضع وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين الصلاة . وقال قائلو هذه المقالة جميعا : موضع المقيمين في الإعراب خفض ، فقال بعضهم : موضعه خفض على العطف على «ما » التي في قوله : يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويؤمنون بالمقيمين الصلاة .

ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل في معنى الكلام ، فقال بعضهم : معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبإقام الصلاة . قالوا : ثم ارتفع قوله : «والمؤتون الزكاة » ، عطفا على ما في «يؤمنون » من ذكر المؤمنين ، كأنه قيل : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك هم والمؤتون الزكاة .

وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة : الملائكة . قالوا : وإقامتهم الصلاة : تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الأرض . قالوا : ومعنى الكلام : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة .

وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة ، هم والمؤتون الزكاة ، كما قال جلّ ثناؤه : يُؤْمِنُ باللّهِ وَيُؤْمِنُ للِمُؤْمِنِينَ . وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون المقيمين منصوبا على المدح وقالوا : إنما تنصب العرب على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره قالوا : وخبر الراسخين في العلم قوله : أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أجْرا عَظِيما . قال : فغير جائز نصب المقيمين على المدح وهو في وسط الكلام ولما يتمّ خبر الابتداء .

وقال آخرون : معنى ذلك : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة . وقالوا : موضع المقيمين خفض .

وقال آخرون : معناه : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة .

وقال أبو جعفر : وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب ، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر على مكنيّ في حال الخفض وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها .

وأولى الأقوال عندي بالصواب ، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقا على «ما » التي في قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة ، فيكون تأويل الكلام : والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فيقول : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمؤمنون بالكتب ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الاَخر . وإنما اخترنا هذا على غيره ، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «والمقيمين » ، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا . وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك ، ما يدلّ على أن الذي في محصفنا من ذلك صواب غير خطأ ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقنوه للأمة تعليما على وجه الصواب . وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوما أدلّ الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب .

وأما من وجه ذلك إلى النصب على وجه المدح للراسخين في العلم وإن كان ذلك قد يحتمل على بعد من كلام العرب لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نعته إلا بعد تمام خبره ، وكلام الله جلّ ثناؤه أفصح الكلام ، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة .

وأما توجيه من وجه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ أو إلى العطف به على الكاف من قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ أو إلى الكاف من قوله : وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح لما قد ذكرت قبل من قبح ردّ الظاهر على المكني في الخفض .

وأما توجيه من وجه المقيمين إلى الإقامة ، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل ولا خبر تثبت حجته ، وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان .

وأما قوله : وَالمُؤْتُونَ الزّكاةَ فإنه معطوف به على قوله : وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ وهو من صفتهم . وتأويله : والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها الله له وصرفها إليه والُمؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يعني : والمصدّقون بوحدانية الله وألوهيته ، والبعث بعد الممات ، والثواب والعقاب أولئك سَنُؤْتِيهمْ أجْرا عَظِيما يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتيهم ، يقول : سنعطيهم أجرا عظيما ، يعني : جزاء على ما كان منهم من طاعة الله ، واتباع أمره ، وثوابً عظيما ، وذلك الجنة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

ثم استثنى الله تعالى من بني إسرائيل «الراسخين » في علم التوراة الذين قد تحققوا أمر محمد عليه السلام وعلاماته ، وهم : عبد الله بن سلام ، ومخيريق{[4369]} ، ومن جرى مجراهما ، { والمؤمنون } : عطف على الراسخين ، و «ما أنزل » إلى محمد هو القرآن ، والذي أنزل من قبله : هو التوراة والإنجيل ، واختلف الناس في معنى قوله { والمقيمين } وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وتأخر ، فقال أبان بن عثمان بن عفان{[4370]} وعائشة رضي الله عنها : ذلك من خطأ كاتب المصحف ، وروي أنها في مصحف أبيّ بن كعب «والمقيمون » وكذلك روى غصمة عن الأعمش ، وكذلك قرأ سعيد بن جبير ، وكذا قرأ عمرو بن عبيد والجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار ، وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو ، وقال آخرون : ليس ذلك من خطأ الكاتب ولا خطأ في المصحف ، وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب ب( أعني ) والرفع بعد ذلك ب ( هم ) وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة ، وحكي عن سيبويه : أنه قطع على المدح ، وخبر { لكن } { يؤمنون } لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى ، وهذا كقول خرنق بنت هفان : [ الكامل ]

لاَ يَبْعَدَنْ قَومِي الّذِينَ هُمُ *** سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجزْرِ

النَّازلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكِ *** والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزرِ{[4371]}

قال القاضي أبو محمد : وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل ، وفي هذا نظر{[4372]} .

وقال قوم : قوله تعالى { والمقيمين } ليس بعطف على قوله { والمؤمنون } ولكن على { ما } في قوله { وما أنزل من قبلك } والمعنى يؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم الملائكة ، وقال بعضهم : بل من تقدم من الأنبياء ، قالوا : ثم رجع بقوله { والمؤتون } فعطف على قوله { والمؤمنون } وقال قوم { والمقيمين } عطف على { ما أنزل } ، والمراد بهم المؤمنون بمحمد ، أي يؤمن الراسخون بهم وبما هم عليه ، ويكون قوله { المؤتون } أي وهم المؤتون ، وقال قوم { والمقيمين } عطف على الضمير في منهم ، وقال آخرون : بل على الكاف في قوله { من قبلك } ويعني الأنبياء ، وقرأت فرقة «سنؤتيهم » بالنون ، و قرأت فرقة «سيؤتيهم » بالياء{[4373]} .


[4369]:- عبد الله بن سلام: يكنى أبا يوسف الإسرائيلي من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان حليفا لبني عوف بن الخزرج، وهو أحد الأحبار، وأحد من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، روى عنه ابناه يوسف ومحمد وغيرهما، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين للهجرة- وسلام بتخفيف اللام. ومخيريق: كان من علماء اليهود وأحبارهم، كان غنيا كثير الأموال، أسلم وأوصى بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم، مات في غزوة أحد.
[4370]:- هو أبان بن عثمان بن عفان القرشي، من أهل المدينة، تابعي، سمع أباه وغيره من الصحابة، وله روايات كثيرة، وروى عنه الزهري، مات بالمدينة زمن يزيد بن عبد الملك. (وأبان) بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة.
[4371]:- البيتان لخرنق بنت هفان وقيل (عفان)- من بني قيس، تصف قومها بالظهور على العدو، ونحر الجزر للأضياف، والملازمة للحرب، والعفة عن الفواحش. وقراءة نصب [المقيمين] فيها أقوال كثيرة، أقربها إلى الصواب قول سيبويه بأنه نصب على المدح، أي: وأعني المقيمين، قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك [والمقيمين الصلاة]، وأنشد (وهما لابن الخياط): = وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر عاويها الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون: لمن دار نخليهـا؟ وأنشد أيضا: لا يبعدن قومي الذين هم .....................إلخ قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في [المقيمين]. أما بقية الأقوال فقد ذكرها ابن عطية كما ترى.
[4372]:- علّق على ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" بعد أن نقله عن ابن عطية- فقال: إن منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية، قال الشاعر: ويأوي إلى نسوة عطّل وشعث مراضيع مثل السعالي
[4373]:- القراءة بالياء عود على قوله تعالى: {والمؤمنون بالله}. وهي قراءة حمزة، أما القراءة بالنون فهي لباقي السبعة وهي على الالتفات، ومناسبة [وأعتدنا]. عن "البحر المحيط".