لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها ؛ وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء ، ولن يأخذهم بالعقاب . حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله ؛ وغرورا منهم بأنهم " شعب الله المختار " !
( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموًا ) . .
طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئا ؛ وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئا . .
وأدركهم برحمته . . فلم يرعووا ولم ينتفعوا :
( ثم عموا وصموا . كثير منهم . . ) ( والله بصير بما يعملون ) . .
وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم . . وما هم بمفلتين . .
ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود ، وهذا الواقع الجديد ؛ لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم ، كما نفر قلب عبادة بن الصامت ؛ فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبدالله بن أبى بن سلول !
{ وَحَسِبُوَاْ أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمّواْ ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمّ عَمُواْ وَصَمّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى : وظنّ هؤلاء الإسرائيليون الين وصف تعالى ذكره صفتهم أنه أخذ ميثاقهم وأنه أرسل إليهم رسلاً ، وأنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسم كذّبوا فريقا وقتلوا فريقا ، أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون . فَعَمُوا وصَمّوا يقول : فعموا عن الحقّ والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم من إخلاص عبادتي ، والانتهاء إلى أمري ونهيي ، والعمل بطاعتي بحسبانهم ذلك وظنهم ، وصموا عنه . ثم تبت عليهم ، يقول : ثم هديتهم بلطف مني لهم ، حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليهم من معاصيّ وخلاف أمري ، والعمل بما أكرهه منهم إلى العمل بما أحبه ، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي . ثُمّ عَمُوا وصَمّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ يقول : ثم عموا أيضا عن الحقّ والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم من العمل بطاعتي والانتهاء إلى أمري واجتناب معاصيّ ، وَصمّوا كَثِيرٌ منهم يقول : عمي كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي عن الحقّ ، وصموا بعد توبتي عليهم واستنقاذي إياهم من الهلكة . وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ يقول : بصير فيرى أعمالهم خيرها وشرّها ، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَحَسِبُوا أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . الاَية ، يقول : حسب القوم أن لا يكون بلاء فعموا وصموا ، كلما عرض بلاء ابتلوا به هلكوا فيه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَحَسِبُوا أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمّوا يقول : حسبوا أن لا يبتلوا ، فعموا عن الحقّ وصمّوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مبارك ، عن الحسن : وَحَسِبُوا أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال بلاء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَحَسِبُوا أنْ لا تكونَ فِتْنَةٌ قال : الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَحَسِبُوا أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وصَمّوا قال : اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَعَمُوا وَصَمّوا قال : يهود . قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : هذه الاَية لبني إسرائيل . قال : والفتنة : البلاء والتمحيص .
المعنى في هذه الآية : وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم ، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم »{[4631]} .
وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } قالت جماعة من المفسرين : هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً ، وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم ، وقالت جماعة : توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا العمى{[4632]} كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن ، ثم توعدهم بقوله تعالى : { والله بصير بما يعملون } .
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكونَ » بنصب النون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكونُ » برفع النون ، ولم يختلفوا في رفع { فتنةٌ } لأن «كان » هنا هي التامة ، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن » هي الخفيفة الناصبة ، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة ، وحسن دخولها لأن «لا » قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضاً منه ، ولا بد في مثل هذا من عوض{[4633]} ، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد ، وقوله عز وجل { علم أن سيكون منكم مرضى }{[4634]} وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة ، وقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[4635]} حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ( ليس ) بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب : ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن » الثقيلة التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع ، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع ، فهذا الضرب تليه «أنْ » الخفيفة إذ هي تناسبه ، كقوله تعالى ، { والذي أطمع أن يغفر لي }{[4636]} { وتخافون أن يتخطفكم الناس }{[4637]} { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }{[4638]} و { فخشينا أن يرهقهما طغياناً }{[4639]} و{ أأشفقتم أن تقدموا }{[4640]} ونحو هذا ، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع ، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة ، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله ، كقوله تعالى : { والذين يظنون أنهم ملاقو ربهم }{[4641]} وقوله { إني ظننت أني ملاق حسابيه }{[4642]} وقرأ جمهور الناس «عَموا وصَموا » بفتح العين والصاد ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عُموا وصُموا » بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله ، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله ، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره ، وصم وأصمه غيره ، ولا يقال عميته ولا صممته{[4643]} .
وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } أي رجع بهم إلى الطاعة والحق ، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى ، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم ، وقوله تعالى { كثير } يرتفع من إحدى ثلاث جهات ، إما على البدل من الواو في قوله { عموا وصموا } وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وإما على أن يكون { كثير } خبر ابتداء مضمر{[4644]} .