وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء :
( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) . .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ؛ إن اهتدى فلها ، وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله ، ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود ، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم ، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّىَ نَبْعَثَ رَسُولاً } .
يقول تعالى ذكره : من استقام على طريق الحقّ فاتبعه ، وذلك دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عليه وسلم فإنّما يَهتَدي لِنَفسِهِ يقول : فليس ينفع بلزومه الاستقامة ، وإيمانه بالله ورسوله غير نفسه وَمَنْ ضَلّ يقول : ومن جار عن قصد السبيل ، فأخذ على غير هدى ، وكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من الحقّ ، فليس يضرّ بضلاله وجوره عن الهدى غير نفسه ، لأنه يوجب لها بذلك غضب الله وأليم عذابه . . وإنما عنى بقوله فإنّمَا يَضِلّ عَلَيها فإنما يكسب إثم ضلاله عليها لا على غيرها . وقوله : وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يعني تعالى ذكره : ولا تحمل حاملة حمل أخرى غيرها من الاَثام . وقال : وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لأن معناها : ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى . يقال منه : وزرت كذا أزره وزرا ، والوزر : هو الإثم ، يجمع أوزارا ، كما قال تعالى : وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ وكأن معنى الكلام : ولا تأثم آثمة إثم أخرى ، ولكن على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرَى : والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره ، ولا يؤاخذ إلا بعمله .
وقوله : وَما كُنّا مَعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل ، وإقامة الحجة عليهم بالاَيات التي تقطع عذرهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما كُنّا مُعَذّبِينَ حتى نَبَعَثَ رَسُولاً : إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا ، أو يأتيه من الله بيّنة ، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي هريرة ، قال : إذا كان يوم القيامة ، جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة والمعتوه والأصمّ والأبكم ، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا ، ثم أرسل رسولاً ، أن ادخلوا النار ، فيقولون : كيف ولم يأتنا رسول ، وايم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم وَما كُنا مُعَذّبِينَ حتى نَبعَثَ رَسُولاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة نحوه .
{ من اهتدى فإنما يعتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى }
هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } مع توابعها . وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار ، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر الضلال ضر لصاحبه . ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها .
وجملة { ولا تزر وازرة وزر أخرى } واقعة موقع التعليل لمضمون جملة { ومن ضل فإنما يضل عليها } لما في هذه من عموم الحكم فإن عَمل أحد لا يُلحق نفعُه ولا ضَره بغيره .
ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفاً للسامع ، فلذلك عطفت الجملة ولم تُفصل . وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم . وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أيمة الكفر كان يقول لقريش : اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم ، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة . ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث ، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمداً على حق ، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن ، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذاً لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو { ولا تزر وازرة وزر أخرى } . فكانت هذه الآية أصلاً عظيماً في الشّريعة ، وتفرع عنها أحكام كثيرة .
ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى الله عليه وسلم " أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليْه " قالت عائشة رضي الله عنها : « يرحم الله أبا عبد الرحمان ، ما قال رسول الله ذلك والله يقول : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } .
ولما مُرّ برسول الله جنازةُ يهودية يبكي عليها أهلها فقال : « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب » .
والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوِزر حُمل عليْه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه ، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار . وقد قال تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، وكذلك وزر من يَسُنّ للناس وزراً لم يكونوا يعملونه من قبل . وفي « الصحيح » : « مَا من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوللِ كِفْل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل » .
وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه لأنه لا يوقع في غرور ، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه ، وقد جاء في القرآن ما يومىء إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى : { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] وفي الحديث : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير .
ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة مناففٍ لهذه الآية ، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات .
و{ تزر } تحمل الوزر ، وهو الثقل . والوازرة : الحاملة ، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصّلت : 46 ] .
وأطلق عليها { وازرة } على معنى الفرض والتقدير ، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها ، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأوْلى .
والوزر : الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة ، كما أطلق عليه الثقل ، قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] .
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
عطف على آية { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الآية .
وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم ، ولهذا اقتصر على قوله : { وما كنا معذبين } دون أن يقال ولا مثيبين . لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد .
والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } [ الإسراء : 16 ] الآية . ودلت على ذلك آيات كثيرة ، قال الله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين } [ الشعراء : 209 ] وقال : { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } [ يونس : 47 ] .
على أن معنى ( حتى ) يؤذن بأن بعثة الرسول متصلة بالعذاب شأن الغاية ، وهذا اتصال عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدةٍ للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين ، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها .
على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة .
ووقوع فعل { معذبين } في سياق النفي يفيد العموم ، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال .
ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم . وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قوم ، فهي حجة للأشعري ناهضة على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله ، وهو ما صرح به صدر الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع . فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل ولا عذر له بعد بعثة رسول .
وتأويل المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوُّحٌ عن استعمال اللغة وإغماض عن كونه مفعولاً لفعل { نبعث } إذ لا يقال بعث عقلاً بمعنى جعل . وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } في سورة [ النساء : 165 ] .