ثم يأخذ في بيان صفات المتقين :
( الذين ينفقون في السراء والضراء ) . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ؛ والتحرر من الشح والحرص ؛ ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها ، المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال ، إلا دافع أقوى من شهوة المال ، وربقة الحرص ، وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق ، الذي تشف به الروح وتخلص ، وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها ، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة ، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) . .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري ، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري ، وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ؛ وشواظ يلفح القلب ؛ ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب ، فهو الانطلاق من ذلك الوقر ، والرفرفة في آفاق النور ، والبرد في القلب ، والسلام في الضمير .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله " يحب " المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير ، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله ، وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة ، وجماعة متآخية ، وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق !
{ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله .
وأما قوله : { فِي السّرّاء } فإنه يعني : في حال السرور بكثرة المال ، ورخاء العيش والسرّاء : مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء : مصدر من قولهم : قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } يقول : في العسر واليسر .
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله .
وقوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه : كظم فلان غيظه : إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها . وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمتُ القربة : إذا ملأتها ماء ، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ ، { وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء ، ومن قيل : أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه . والغيظ : مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .
وأما قوله : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم ، وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .
وأما قوله { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } فإنه يعني : فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض . والعاملون بها هم المحسنون ، وإحسانهم هو عملهم بها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } . . . الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } أي وذلك الإحسان ، وأنا أحبّ من عمل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } : قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بالخير فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله ، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن ، قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا . ثم قرأ هذه الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عمّ له ، عن أبي هريرة في قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيمانا » .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } . . . إلى الاَية : { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، فالكاظمين الغيظ كقوله : { وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ }¹ يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله¹ { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } كقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ } . . . إلى : { ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ } يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
{ الذين ينفقون } صفة مادحة للمتقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع . { في السراء والضراء } في حالتي الرخاء والشدة ، أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة ، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير ، { والكاظمين الغيظ } الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة ، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " . { والعافين عن الناس } التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام " إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله " وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت . { والله يحب المحسنين } يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء ، والعهد فتكون الإشارة إليهم .
الصفة الأولى : الإنفاق في السَّراء والضّراء . والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله . والسرّاء فَعْلاء ، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً . والضّراء كذلك من ضَرّه ، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن ، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم ، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة . فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال ، الَّذي هو عزيز على النَّفس ، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة .
الصفة الثَّانية : الكاظمين الغيظ . وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه ، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها ، قال المبرّد : فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء ، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة .
الصفّة الثالثة : العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم . وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم ، مستمرّ معهم . وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسٍ سهل ما دونها لديها .
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله : { والله يحب المحسنين } لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين .