في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

148

ولا يترك السياق الموقف مع اليهود ، حتى ينصف القليل المؤمن منهم ؛ ويقرر حسن جزائهم ، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق ، ويشهد لهم بالعلم والإيمان ، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله : ما أنزل إلى الرسول [ ص ] وما أنزل من قبله ، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان :

( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك . والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا ) . .

فالعلم الراسخ ، والإيمان المنير ، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله . كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد .

وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك ؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين . فالعلم السطحي كالكفر الجاحد ، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة . . ونحن نشهد هذا في كل زمان . فالذين يتعمقون في العلم ، ويأخذون منه بنصيب حقيقي ، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية ؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة ، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا ، وذا إرادة واحدة ، وضعت ذلك الناموس الواحد . . وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح الله عليهم ، وتتصل أرواحهم بالهدى . . أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء ، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان ، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام . وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق . . وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان ، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد ، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين .

وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني - أول من تعني - أولئك النفر من اليهود ، الذين استجابوا للرسول [ ص ] وذكرنا أسماءهم من قبل ، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين ، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير . .

ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين ، الذين تعينهم صفاتهم :

( والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) .

وهي صفات المسلمين التي تميزهم : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالله واليوم الآخر . . وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم .

أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا . .

ونلاحظ أن ( المقيمين الصلاة ) تأخذ إعرابا غير سائر ما عطفت عليه . وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى - وأخص المقيمين الصلاة - ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم ، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة . وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة : والمقيمون الصلاة في مصحف عبدالله بن مسعود .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أُوْلََئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } . .

هذا من الله جلّ ثناؤه استثناء ، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات التي مضت من قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ ثم قال جلّ ثناؤه لعباده ، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده : ما كُلّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم ، لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه ، وأتقنوا ذلك ، وعرفوا حقيقته . وقد بينا معنى الرسوخ في العلم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وَالمُؤْمِنُونَ يعني : والمؤمنون بالله ورسله ، وهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك يا محمد ، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل ، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الجهلة منهم أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، لأنهم قد علموا بما قرءوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم ، أنك لله رسول واجب عليهم اتباعك ، لا يسعهم غير ذلك ، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ، ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من أخبار أنبيائهم إياهم بذلك وبما أعطيتك من الأدلة على نبوّتك ، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ من الكتاب و ب بما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ استثنى الله ثَنِيّةً من أهل الكتاب ، وكان منهم من يؤمن بالله ، وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبيّ الله ، يؤمنون به ويصدّقون به ، ويعلمون أنه الحقّ من ربهم .

ثم اختلف في المقيمين الصلاة ، أهم الراسخون في العلم ، أم هم غيرهم ؟ فقال بعضهم : هم هم . ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب الراسخون في العلم ، وهما من صفة نوع من الناس ، فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمقيمون الصلاة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الزبير ، قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان : ما شأنها كتبت لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمُقِيمِينَ الصّلاةَ ؟ قال : إن الكاتب لما كتب لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له اكتب والمُقِيمِينَ الصّلاةَ فكتب ما قيل له .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة عن قوله : وَالمُقِيمِينَ الصّلاةَ ، وعن قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ ، وعن قوله : إنّ هَذَانِ لَساحِرَانِ فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب .

وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «والمُقِيمُونَ الصّلاةَ » .

وقال آخرون ، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة : والمقيمون الصلاة من صفة الراسخون في العلم ، ولكن الكلام لما تطاول واعترض بين الراسخين في العلم والمقيمن الصلاة ما اعترض من الكلام فطال نصب المقيمين على وجه المدح ، قالوا : والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته إذا تطاولت بمدح أو ذمّ خالفوا بين إعراب أوّله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوّله ، وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه ، وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب . واستشهدوا لقولهم ذلك بالاَيات التي ذكرناهاا في قوله : والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضّرّاءِ .

وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة من صفة غير الراسخين في العلم في هذا الموضع وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين الصلاة . وقال قائلو هذه المقالة جميعا : موضع المقيمين في الإعراب خفض ، فقال بعضهم : موضعه خفض على العطف على «ما » التي في قوله : يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويؤمنون بالمقيمين الصلاة .

ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل في معنى الكلام ، فقال بعضهم : معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبإقام الصلاة . قالوا : ثم ارتفع قوله : «والمؤتون الزكاة » ، عطفا على ما في «يؤمنون » من ذكر المؤمنين ، كأنه قيل : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك هم والمؤتون الزكاة .

وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة : الملائكة . قالوا : وإقامتهم الصلاة : تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الأرض . قالوا : ومعنى الكلام : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة .

وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة ، هم والمؤتون الزكاة ، كما قال جلّ ثناؤه : يُؤْمِنُ باللّهِ وَيُؤْمِنُ للِمُؤْمِنِينَ . وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون المقيمين منصوبا على المدح وقالوا : إنما تنصب العرب على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره قالوا : وخبر الراسخين في العلم قوله : أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أجْرا عَظِيما . قال : فغير جائز نصب المقيمين على المدح وهو في وسط الكلام ولما يتمّ خبر الابتداء .

وقال آخرون : معنى ذلك : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة . وقالوا : موضع المقيمين خفض .

وقال آخرون : معناه : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة .

وقال أبو جعفر : وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب ، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر على مكنيّ في حال الخفض وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها .

وأولى الأقوال عندي بالصواب ، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقا على «ما » التي في قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة ، فيكون تأويل الكلام : والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فيقول : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمؤمنون بالكتب ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الاَخر . وإنما اخترنا هذا على غيره ، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «والمقيمين » ، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا . وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك ، ما يدلّ على أن الذي في محصفنا من ذلك صواب غير خطأ ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقنوه للأمة تعليما على وجه الصواب . وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوما أدلّ الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب .

وأما من وجه ذلك إلى النصب على وجه المدح للراسخين في العلم وإن كان ذلك قد يحتمل على بعد من كلام العرب لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نعته إلا بعد تمام خبره ، وكلام الله جلّ ثناؤه أفصح الكلام ، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة .

وأما توجيه من وجه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ أو إلى العطف به على الكاف من قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ أو إلى الكاف من قوله : وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح لما قد ذكرت قبل من قبح ردّ الظاهر على المكني في الخفض .

وأما توجيه من وجه المقيمين إلى الإقامة ، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل ولا خبر تثبت حجته ، وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان .

وأما قوله : وَالمُؤْتُونَ الزّكاةَ فإنه معطوف به على قوله : وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ وهو من صفتهم . وتأويله : والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها الله له وصرفها إليه والُمؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يعني : والمصدّقون بوحدانية الله وألوهيته ، والبعث بعد الممات ، والثواب والعقاب أولئك سَنُؤْتِيهمْ أجْرا عَظِيما يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتيهم ، يقول : سنعطيهم أجرا عظيما ، يعني : جزاء على ما كان منهم من طاعة الله ، واتباع أمره ، وثوابً عظيما ، وذلك الجنة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

{ لكن الراسخون في العلم منهم } كعبد الله بن سلام وأصحابه . { والمؤمنون } أي منهم أو من المهاجرين والأنصار . { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } خبر المبتدأ { والمقيمين الصلاة } نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لأولئك ، أو عطف على ما أنزل إليك والمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي : يؤمنون بالكتب والأنبياء . وقرئ بالرفع عطفا على { الراسخون } أو على الضمير في { يؤمنون } أو على أنه مبتدأ والخبر { أولئك سنؤتيهم } . { والمؤتون الزكاة } رفعه لأحد الأوجه المذكورة . { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } قدم عليه الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية . { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح وقرأ حمزة { سيؤتيهم } بالياء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

الاستدراك بقوله : { لكن الراسخون في العلم } الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله : { يسألك أهل الكتاب } [ النساء : 153 ] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح ، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهَّم ، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق .

والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي ، لا يتزلزل ؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم } في سورة آل عمران ( 7 ) . والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت ، فليس بينه وبين الحقّ حاجب ، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات .

وعطفُ { المؤمنون } على { الراسخون } ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارقَ للعادة . فلذلك قال { يؤمنون } ، أي جميعهم بما أنزل إليك ، أي القرآن ، وكفاهم به آية ، وما أنزل من قبلك على الرسل ، ولا يعادون رسل الله تعصّباً وحميّة . والمراد بالمؤمنين في قوله : { والمؤمنون } الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب ، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم ، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنَ به .

وعطف { المقيمين } بالنصب ثبت في المصحف الإمام ، وقرآه المسلمون في الأقطار دون نكير ؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ ، على أمثالها ، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح ، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام ، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة ، سواء كانت بدون عطف أم بعطف ، كقوله تعالى : { ولكنْ البِرّ من آمن إلى قوله والصابرين } [ البقرة : 177 ] . قال سيبويه في « كتابه » « بابُ ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جَعلته صفة فجرَى على الأول ، وإن شئتَ قطعته فابتدأتَه » . وذَكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال : « فلو كان كلُّه رفعاً كان جيّداً » ، ومثْله { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّرّاء } [ البقرة : 177 ] ، ونظيره قول الخِرْنق :

لا يبْعَدَنْ قومي الذي هُمُو *** سُمّ العُداة وآفَة الجزر

النازلون بكلّ معتــرك *** والطيِّبيّين معاقِدَ الأزْر

في رواية يونس عن العرب : برفع ( النازلون ) ونصب ( الطيِّبيين ) ، لتكون نظير هذه الآية . والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات ، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية ، وفي قوله : { والصابون } في سورة المائدة ( 69 ) .

وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب { المقيمين } خطأ ، من كاتب المصحف وقد عَدّتْ من الخطأ هذه الآية . وقوله : { ولكن البرّ من آمن بالله } إلى قوله { والصابرين في البأساء } [ البقرة : 177 ] وقولهِ : { إِنّ هذَان لساحرانِ } [ طه : 63 ] . وقوله : { والصابُون } في سورة المائدة ( 69 ) . وقرأتْها عائشة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبَي بن كعب ، والحسن ، ومالك بن دينار ، والجحدري ، وسعيد بن جبير ، وعيسى بن عمر ، وعمرو بن عبيد : { والمقيمون } بالرفع . ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة .

ومن النّاس من زعم أنّ نصب { المقيمين } ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم : « أحسنتم وأجملتم وأرى لحناً قليلاً ستُقيمه العرب بألْسنتها » . وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نُسبت إليهم . ومن البعيد جدّاً أن يخطىء كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها ، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّهِ . ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً .

وقد علمتَ وجه عربيّته في المتعاطفات ، وأمّا وجه عربية { إنّ هذان لساحران } فيأتي عند الكلام في سورة طه ( 63 ) .

والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألِفات المحذوفة . قال صاحب الكشاف } : « وهُم كانوا أبْعَدَ همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يَلْحَق بهم » . وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضرّاء } في سورة البقرة ( 177 ) .

والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنَّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد وقد ورد في الحديث الصّحيح : أنّ لهم أجرين ، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنَّهم سبقوا غيرهم بالإيمان .

وقرأ الجمهور : { سنوتيهم } بنون العظمة وقرأه حمزة وخلف بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { والمؤمنون بالله } .