ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة . فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع الكفر ، واعتدوا أشنع الاعتداء ، وعصوا أبشع المعصية . وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل !
ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة . كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون ، وهم وحدهم شعب الله المختار ، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله ؛ وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك . . وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة ، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية ، التي تتخلل القصص القرآني ، أو تسبقه أو تتلوه . يقرر قاعدة وحدة الإيمان . . ووحدة العقيدة ، متى انتهت إلى إسلام النفس لله ، والإيمان به إيمانا ينبثق منه العمل الصالح . وإن فضل الله ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة ، إنما هو للمؤمنين أجمعين ، في كل زمان وفي كل مكان ، كل بحسب دينه الذي كان عليه ، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه :
( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين - من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين . والذين هادوا هم اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله ، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم اتباع عيسى - عليه السلام - والصابئون : الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة ، الذي ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها ، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا : إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم ، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم . فقال عنهم المشركون : إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك . ومن ثم سموا الصابئة . وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير .
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعا وعمل صالحا ، فإن لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فالعبرة بحقيقة العقيدة ، لا بعصبية جنس أو قوم . . وذلك طبعا قبل البعثة
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
قال أبو جعفر : أما الذين آمنوا فهم المصدّقون رسول الله فيما أتاهم به من الحقّ من عند الله ، وإيمانهم بذلك : تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا . وأما الذين هادوا ، فهم اليهود ، ومعنى هادوا : تابوا ، يقال منه : هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً . وقيل : إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم : إنا هُدْنا إلَيْكَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج ، قال : إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا : إنّا هُدْنا إلَيْكَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالنّصَارَى .
قال أبو جعفر : والنصارى جمع ، واحدهم نَصْران ، كما واحد سَكارى سكران ، وواحد النّشاوى نشوان . وكذلك جمع كل نعت كان واحده على فعلان ، فإن جمعه على فعالى إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصرانيّ . وقد حُكي عنهم سماعا «نَصْرَان » بطرح الياء ، ومنه قول الشاعر :
تَرَاهُ إذَا زَارَ العَشِيّ مُحَنّفا *** ويُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ
وسمع منهم في الأنثى نصرانة ، قال الشاعر :
فكِلْتاهُما خَرّتْ وأسْجَدَ رأسُها *** كما سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لمْ تَحَنّفِ
يقال : أسجد : إذا مال . وقد سمع في جمعهم أنصار بمعنى النصارى ، قال الشاعر :
لَمّا رأيْتُ نَبَطا أنْصَارَا *** شَمّرْتُ عَنْ رُكْبَتِي الإزارَا
*** كُنْتُ لَهُمْ مِن النّصَارَى جارَا ***
وهذه الأبيات التي ذكرتها تدل على أنهم سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم . وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها «ناصرة » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : النصارى إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة .
ويقول آخرون : لقوله : مَنْ أنْصارِي إلى اللّهِ .
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول : إنما سميت النصارى نصارى ، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة ، وكان أصحابه يسمون الناصريين ، وكان يقال لعيسى : الناصري .
حدثت بذلك عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم ، فهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : الّذِين قالُوا إنا نَصَارَى قال : تسموا بقرية يقال لها ناصرة ، كان عيسى ابن مريم ينزلها .
القول في تأويل قوله تعالى : والصّابِئِينَ
قال أبو جعفر : والصابئون جمع صابىء ، وهو المستحدث سوى دينه دينا ، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا ، يقال منه : صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً ، ويقال : صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا ، يعني به طلع .
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الصّابِئُونَ ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حجام ، عن عنبسة ، عن الحجاج ، عن مجاهد ، قال : الصابئون بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن حجاج ، عن قتادة ، عن الحسن مثل ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح : الصابئين بين اليهود والمجوس لا دين لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : الصابئين بين المجوس واليهود ، لا دين لهم .
قال ابن جريج : قلت لعطاء : «الصابئين » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى . قال : قد سمعنا ذلك ، وقد قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : قد صبأ .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الصّابِئُون قال : الصابئون : دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : «لا إلَه إلاّ الله » ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ إلا قول لا إلَه إلاّ الله . قال : ولم يؤمنوا برسول الله ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون . يشبهونهم بهم .
وقال آخرون : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : حدثني زياد : أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخُبّر بعد أنهم يعبدون الملائكة .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : والصّابِئِين قال : الصابئون قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ، ويقرؤن الزبور .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور .
قال أبو جعفر الرازي : وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .
وقال آخرون : بل هم طائفة من أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، قال : سئل السديّ عن الصابئين فقال : هم طائفة من أهل الكتاب .
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وعمِل صَالِحا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهمْ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ : من صدق وأقرّ بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله ، فلهم أجرهم عند ربهم ، يعني بقوله : فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم .
فإن قال لنا قائل : فأين تمام قوله : إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين ؟ قيل : تمامه جملة قوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ لأن معناه : من آمن منهم بالله واليوم الاَخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عما ترك ذكره .
فإن قال : وما معنى هذا الكلام ؟ قيل : إن معناه : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم .
فإن قال : وكيف يؤمن المؤمن ؟ قيل : ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان ، وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى ، وبما جاء به ، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمن به وصدّقه ، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم : آمنوا بمحمد وبما جاء به ، ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله .
وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين ، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، فمن يؤمن منهم بمحمد ، وبما جاء به واليوم الاَخر ، ويعمل صالحا ، فلم يبدّل ولم يغير ، حتى توفي على ذلك ، فله ثواب عمله وأجره عند ربه ، كما وصف جل ثناؤه .
فإن قال قائل : وكيف قال : فلهم أجرهم عند ربهم ، وإنما لفظ من لفظ واحد ، والفعل معه موحد ؟ قيل : «مَنْ » وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا ، فإن له معنى الواحد والاثنين والجمع والتذكير والتأنيث ، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير ، فالعرب توحد معه الفعل وإن كان في معنى جمع للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه ، كما قال جل ثناؤه : ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفأنْتَ تُسْمع الصّمّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُون ومِنهم مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أفأنْتَ تَهْدِي العُمْي وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فجمع مرة مع ( من ) الفعل لمعناه ، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد ، كما قال الشاعر :
ألِمّا بسَلْمَى عَنْكما إنْ عَرَضْتُما *** وَقُولا لَهَا عُوجي على مَنْ تَخَلّفُوا
فقال : تخلفوا ، وجعل «من » بمنزلة الذين . وقال الفرزدق :
تَعالَ فإنْ عاهَدْتَنِي لا تخُونُنِي *** نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبانِ
فثنى يصطحبان لمعنى «من » . فكذلك قوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ ربّهِمْ وحد آمن وعمل صالحا للفظ من ، وجمع ذكرهم في قوله : فَلَهُمْ أجْرُهُمْ لمعناه ، لأنه في معنى جمع .
وأما قوله : ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون فإنه يعني به جل ذكره : ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده .
ذكر من قال عُنِي بقوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ : مؤمنوا أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هادُوا الآية ، قال : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ، وكان سلمان من جُنْد نيْسابور ، وكان من أشرافهم ، وكان ابن الملك صديقا له مواخيا ، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه ، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا . فبينما هما في الصيد إذ رفع لهما بيت من خبَاء ، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي ، فسألاه ما هذا ، فقال : الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما ، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما ، فنزلا إليه ، فقال لهما : هذا كتاب جاء من عند الله ، أمر فيه بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيه : أن لا تزني ، ولا تسرق ، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل . فقصّ عليهما ما فيه ، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى . فوقع في قلوبهما وتابعاه فأسلما ، وقال لهما : إن ذبيحة قومكما عليكما حرام ، فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه ، حتى كان عيد للملك ، فجعل طعاما ، ثم جمع الناس والأشراف ، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس ، فأبى الفتى وقال : إني عنك مشغول ، فكل أنت وأصحابك ، فلما أكثر عليه من الرسل ، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم ، فبعث الملك إلى ابنه ، فدعاه وقال : ما أمرك هذا ؟ قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم ، إنكم كفار ليس تحلّ ذبائحكم ، فقال له الملك : من أمرك بهذا ؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك ، فدعا الراهب فقال : ماذا يقول ابني ؟ قال : صدق ابنك ، قال له : لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك ، ولكن اخرج من أرضنا فأجّله أجلاً . فقال سلمان : فقمنا نبكي عليه ، فقال لهما : إن كنتما صادقين ، فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلاً نعبد الله فيها ، فأتونا فيها . فخرج الراهب ، وبقي سلمان وابن الملك فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا ، وابن الملك يقول : نعم ، وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز . فلما أبطأ على سلمان ، خرج سلمان حتى أتاهم ، فنزل على صاحبه وهو ربّ البيعة ، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان ، فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ، ويتعب نفسه ، فقال له الشيخ : إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق ، وأنا خائف أن تفتر وتعجز ، فارفق بنفسك وخفف عليها فقال له سلمان : أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل ، أو الذي أصنع ؟ قال : بل الذي تصنع ؟ قال : فخلّ عني . ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال : أتعلم أن هذه البيعة لي ، وأنا أحقّ الناس بها ، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت ؟ ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء ، وأنا أريد أن أتحوّل من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء ، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم ، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق . قال له سلمان : أيّ البيعتين أفضل أهلاً ؟ قال : هذه . قال سلمان : فأنا أكون في هذه . فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان ، فكان سلمان يتعبد معهم ، ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس ، فقال لسلمان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق ، وإن شئت أن تقيم فأقم . فقال له سلمان : أيهما أفضل أنطلق معك أم أقيم ؟ قال : لا بل تنطلق معي . فانطلق معه فمرّوا بمقعد على ظهر الطريق ملقى ، فلما رآهما نادى : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فلم يكلمه ، ولم ينظر إليه ، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس ، فقال الشيخ لسلمان : اخرج فاطلب العلم فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض . فخرج سلمان يسمع منهم ، فرجع يوما حزينا ، فقال له الشيخ : مالك يا سلمان ؟ قال : أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم ، فقال له الشيخ : يا سلمان لا تحزن ، فإنه قد بقي نبيّ ليس من نبيّ بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي يخرج فيه ، ولا أراني أدركه ، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه ، وهو يخرج في أرض العرب ، فإن أدركته فآمن به واتبعه فقال له سلمان : فأخبرني عن علامته بشيء . قال : نعم ، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوّة ، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد ، فناداهما فقال : يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله ، فعطف إليه حماره ، فأخذ بيده فرفعه ، فضرب به الأرض ودعا له ، وقال : قم بإذن الله ، فقام صحيحا يشتدّ ، فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتدّ . وسار الراهب فتغيب عن سلمان ولا يعلم سلمان . ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب ، فلقيه رجلان من العرب من كلب فسألهما : هل رأيتما الراهب ؟ فأناخ أحدهما راحلته ، قال : نعم راعي الصّرْمة هذا ، فحمله فانطلق به إلى المدينة . قال سلمان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط . فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما ، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم . فبينا هو يوما يرعى ، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه ، فقال : أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبيّ ؟ فقال له سلمان : أقم في الغنم حتى آتيك . فهبط سلمان إلى المدينة ، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد ، فأرسل ثوبه ، حتى خرج خاتمه ، فلما رآه أتاه وكلمه ، ثم انطلق ، فاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا ، ثم أتاه به ، فقال : «ما هذا ؟ » قال سلمان : هذه صدقة قال : «لا حاجة لي بها فأخْرِجْها فليأْكُلْها المسلمون » . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما هذا ؟ » قال : هذه هدية ، قال : «فاقْعُدْ » ، فقعد فأكلا جميعا منها . فبينا هو يحدّثه إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «يا سَلْمانُ هُمْ مِنْ أهْلِ النّارِ » . فاشتدّ ذلك على سلمان ، وقد كان قال له سلمان : لو أدركوك صدّقوك واتبعوك ، فأنزل الله هذه الآية : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ .
فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى ، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا . وإيمان النصارى أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولاً منه ، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا الآية . قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم ، قال : لم يموتوا على الإسلام . قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض . وذكر اجتهادهم ، فنزلت هذه الآية ، فدعا سلمان فقال : «نزلت هذه الآية في أصحابك » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَاتَ على دِينِ عِيسَى ومات على الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِي فَهُوَ على خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِي اليَوْمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي فَقَدْ هَلَكَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ إلى قوله : ولا هُمْ يَحْزَنُونَ . فأنزل الله تعالى بعد هذا : وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ . وهذا الخبر يدلّ على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاَخرة الجنة ، ثم نسخ ذلك بقوله : وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .
فتأويل الآية إذا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي : إن الذين آمنوا من هذه الأمة ، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الاَخر ، فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ عليهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ .
والذي قلنا من التأويل الأول أشبه بظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ عن جميع ما ذكر في أول الآية .
{ إن الذين آمنوا } بألسنتهم ، يريد به المتدينين بدين محمد صلى الله عليه وسلم المخلصين منهم والمنافقين ، وقيل المنافقين لانخراطهم في سلك الكفرة .
{ والذين هادوا } تهودوا ، يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ، ويهود : إما عربي من هاد إذا تاب ، سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل ، وإما معرب يهوذا وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام .
{ والنصارى } جمع نصران كندامى وندمان ، والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام ، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة فسموا باسمها ، أو من اسمها .
{ والصابئين } قوم بين النصارى والمجوس . وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام . وقيل هم عبدة الملائكة . وقيل عبدة الكواكب ، وهو إن كان عربيا فمن صبأ إذا خرج . وقرأ نافع وحده بالياء إما لأنه خفف الهمزة وأبدلها ياء ، أو لأنه من صبأ إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل .
{ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه . وقيل من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ، ودخل في الإسلام دخولا صادقا : { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي وعد لهم على إيمانهم وعملهم .
{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } حين يخاف الكفار من العقاب ، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب . و{ من } مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ، وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث إنها لا تدخل الشرطية ، ورد بقوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
اختلف المتأولون في المراد ب { الذين آمنوا } في هذه الآية ، فقال سفيان الثوري : هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : { إن الذين آمنوا } في ظاهر أمرهم ، وقرنهم( {[704]} ) باليهود { والنصارى والصابئين } ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم ، فمعنى قوله { من آمن } في المؤمنين المذكورين : من حقق وأخلص ، وفي سائر الفرق المذكورة : من دخل في الإيمان . وقالت فرقة : { الذين آمنوا } هم المؤمنون حقاً( {[705]} ) بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله .
{ من آمن بالله } يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام ، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه . وقال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل( {[706]} ) ، وقس بن ساعدة( {[707]} ) ، وورقة بن نوفل( {[708]} ) ، { والذين هادوا } كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، إلا من كفر بعيسى عليه السلام ، { والنصارى } كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، { والصابئين } كذلك ، قال : إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، وذكر له الطبري قصة طويلة ، وحكاها أيضاً ابن إسحاق ، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم( {[709]} ) إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فأمن به ، ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم ، وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية .
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام ، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره ، ثم نسخ( {[710]} ) ما قرر من ذلك بقوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه }( {[711]} ) [ آل عمران : 85 ] وردت الشرائع : كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ والذين هادوا } هم اليهود ، وسموا بذلك لقولهم { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا ، فاسمهم على هذا من هاد يهود ، قال الشاعر : [ السريع ]
إني امرؤ من مدحتي هائد . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي تائب : وقيل : نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ، فلما عرب الاسم لحقه التغيير ، كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها ، وحكى الزهراوي التهويد النطق في سكون ووقار ولين ، وأنشد :
وخود من اللائي تسمعن بالضحى . . . قريض الردافى بالغناء المهود( {[712]} )
قال : ومن هذا سميت اليهود ، وقرأ أبو السمال «هادَوا » بفتح الدال( {[713]} ) .
{ والنصارى }( {[714]} ) لفظة مشتقة من النصر ، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة ، ويقال نصريا ويقال نصرتا( {[715]} ) ، وإما لأنهم تناصروا ، وإما لقول عيسى عليه السلام { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 152 ، الصف : 4 ] قال سيبويه : واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى ، وأنشد : [ أبو الأخرز الحماني ] : [ الطويل ]
فكلتاهما خرت وأسجدَ رأسُها . . كما سَجَدتْ نصْرانةٌ لم تَحَنّفِ( {[716]} )
يظل إذا دار العشيُّ محنّفاً . . . ويضحي لديها وهو نَصْرانُ شامسُ( {[717]} )
قال سيبويه : إلا إنه لا يستعمل في الكلام إلاّ بياء نسب( {[718]} ) ، قال الخليل ، واحد { النصارى } نصريّ كمهريّ ومهارى .
والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب( {[719]} ) تقول لمن أسلم قد صبا ، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيهاً بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله ، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت ، قال أبو علي : يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت ، فالصابىء التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره ، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها ، وبالهمزة قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه ، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال ، أو يجعله على قلب الهمزة ياء ، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر .
وأما المشار إليهم في قوله تعالى : { والصابئين } فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، وليسوا بيهود ولا نصارى( {[720]} ) ، وقال ابن أبي نجيح( {[721]} ) : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم ، وقال ابن زيد : هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بجزيرة الموصل ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة .
و { من } في قوله { من آمن بالله } في موضع نصب بدل من { الذين }( {[722]} ) ، والفاء في قولهم { فلهم } داخله بسبب الإبهام الذي في { من } و { لهم أجرهم } ابتداء وخبر في موضع خبر { إن } ، ويحتمل ويحسن أن تكون { من } في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، والفاء في قوله { فلهم } موطئة أن تكون الجملة جوابها ، و { لهم أجرهم } خبر { من } ، والجملة كلها خبر { إن } ، والعائد على { الذين } محذوف لا بد من تقديره( {[723]} ) ، وتقديره «من آمن منهم بالله » .
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب ، ومنه يتفهم( {[724]} ) ، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى ، وجمع الضمير في قوله تعالى { لهم أجرهم } بعد أن وحد في { آمن } لأن { من } تقع على الواحد والتثنية الجمع ، فجائز أن يخرج ما بعدها مفرداً على لفظها ، أو مثنى أو مجموعاً على معناها ، كما قال عز وجل { ومنهم من يستمعون إليك }( {[725]} ) [ يونس : 42 ] فجمع على المعنى ، وكقوله { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات }( {[726]} ) [ النساء : 13 ] ثم قال { خالدين فيها } [ النساء : 13 ] فجمع على المعنى ، وقال الفرزدق : [ الطويل ]
تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونني . . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطحبانِ
فثنى على المعنى ، وإذا جرى ما بعد { من } على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام( {[727]} ) .
وقرأ الحسن «ولا خوف » نصب على التبرية ، وأما الرفع فعلى الابتداء ، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية( {[728]} ) .