ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء ؛ وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه ، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه ، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه :
( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ? إذ دخلوا على داود ففزع منهم . قالوا : لا تخف . خصمان بغى بعضنا على بعض . فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط . واهدنا إلى سواء الصراط . إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، فقال : أكفلنيها ، وعزني في الخطاب . قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات - وقليل ما هم - وظن داود أنما فتناه . فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ) . .
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك ، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك ، وللقضاء بين الناس . ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحاً لله في المحراب . وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس .
وفي ذات يوم فوجى ء بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه . ففزع منهم . فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين ! فبادرا يطمئنانه . ( قالوا : لا تخف . خصمان بغى بعضنا على بعض ) . وجئنا للتقاضي أمامك ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ) . .
وقوله : إذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ فكرّر إذ مرّتين ، وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا ، قال : وإن شئت جعلت لما في الأوّل ، فإذا كان لما أوّلا أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره .
وقوله : ( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) : يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ، فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المَدْخَل عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه . وقيل : إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلاً في غير وقت نظره بين الناس قالوا : لا تَخَفْ يقول تعالى ذكره : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن . وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله خَصْمانِ فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم والمكلّم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكلّم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حُذف الاسم ، وأكثر ما يجِييء ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خَصْمان ومنه قول الشاعر :
وَقُولا إذَا جاوَزْتُمَا أرْضَ عامِرٍ *** وَجاوَزْتُمَا الحَيّيْنَ نَهْدا وخَثْعَما
نَزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبّانِ إنهمْ *** أَبَوْا أن يُميرُوا في الهَزَاهِزِ مِحْجَما
تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِيّ يوْمَ لَقِيتُها *** أمُنْطَلِقٌ في الجَيْشِ أمْ مُتَثاقِلُ
ومنه قولهم : «مُحْسِنة فهيلي » . وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «آئِبُونَ تائِبُونَ » . وقوله : «جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ مَكْتُوبٌ بينَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ » كلّ ذلك بضميرٍ رَفَعه . وقوله عزّ وجلّ بَغَى بَعْضُنا على بَعْضٍ يقول : تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ فاحْكُمْ بَيْنَنا بالحَقّ يقول : فاقضِ بيننا بالعدّل وَلا تُشْطِطْ : يقول : ولا تَجُر ، ولا تُسْرِف في حكمك ، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه . وفيه لغتان : أشَطّ ، وشَطّ . ومن الإشطاط قول الأحوص :
ألا يا لَقَوْمٍ قَدْ أشَطّتْ عَوَاذِلي *** وَيَزْعُمْنَ أنْ أَوْدَي بحَقّيَ باطِلِي
ومسموع من بعضهم : شَطَطْتَ عليّ في السّوْم . فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شَطّت الدار ، فهي تَشِطّ ، كما قال الشاعر :
تَشِطّ غَدا دَارُ جِيرَانِنا *** وللدّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ
وقوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ يقول : وأرشدنا إلى قَصْد الطريق المستقيم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَلا تُشْطِطْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تُشْطِطْ : أي لا تمل .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلا تُشْطِطْ يقول : لا تُحِف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُشْطِطْ تخالف عن الحقّ .
وكالذي قلنا أيضا في قوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ قالوا : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ إلى عدله وخيره .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَاهْدنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ إلى عدل القضاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ قال : إلى الحقّ الذي هو الحقّ : الطريق المستقيم وَلا تُشْطِطْ تذهب إلى غيرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ : أي احملنا على الحقّ ، ولا تخالف بنا إلى غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.