في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِۖ ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (4)

( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .

وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها ، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية ، يصعب التغلب عليها ومغالطتها .

( أروني ماذا خلقوا من الأرض ? ) . .

ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا ، أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .

( أم لهم شرك في السماوات ? ) . .

ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق ، والشعور بوحدانيته ؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .

ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق ، فيطالبها بالحجة والدليل ؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير :

( ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .

فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة ، أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .

وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات ، واسعة المدى ، قوية الإيقاع ، حاسمة الدليل .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِۖ ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هََذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك : أرأيتم أيها القوم الاَلهة والأوثان التي تعبدون من دون الله ، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض ، فإن ربي خلق الأرض كلها ، فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك آلهة وأربابا ، فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة ، فإن من حجتي على عبادتي إلهي ، وإفرادي له الألوهة ، أنه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل .

وقوله : أمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَوَاتِ يقول تعالى ذكره : أم لاَلهتكم التي تعبدونها أيها الناس شرك مع الله في السموات السبع ، فيكون لكم أيضا بذلك حجة في عبادتكموها ، فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي ، أنه لا شريك له في خلقها ، وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه .

وقوله : ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبَلِ هَذَا يقول تعالى ذكره : بكتاب جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل عليّ ، بأن ما تعبدون من الاَلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئا ، أو أن لهم مع الله شركا في السموات ، فيكون ذلك حجة لكم على عبادتكم إياها ، لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في النّعم التي أنتم فيها ، ووجب لها عليكم الشكر ، واستحقت منكم الخدمة ، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا الله .

وقوله : أوْ أثارةٍ مِنْ عِلْمٍ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق أوْ أثارةٍ من علم بالألف ، بمعنى : أو ائتوني ببقية من علم . ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلميّ أنه كان يقرأه «أوْ أثَرَةٍ من علم » ، بمعنى : أو خاصة من علم أوتيتموه ، وأوثرتم به على غيركم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ بالألف ، لإجماع قرّاء الأمصار عليها .

واختلف أهل التأويل في تأويلها ، فقال بعضهم : معناه : أو ائتوني بعلم بأن آلهتكم خَلَقت من الأرض شيئا ، وأن لها شركا في السموات من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض ، فإنكم معشر العرب أهل عيافة وزجر وكهانة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن آدم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : خط كان يخطه العرب في الأرض .

حدثنا أبو كُرَيْب ، قال : قال أبو بكر : يعني ابن عياش : الخط : هو العيافة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو خاصة من علم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : أو خاصة من علم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : أي خاصة من علم .

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن قتادة أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : خاصة من علم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو علم تُثيرونه فتستخرجونه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : أثارة شيء يستخرجونه فِطْرة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو تأثرون ذلك علما عن أحد ممن قبلكم ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : أحد يأثر علما .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو ببينة من الأمر . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوْ أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يقول : ببينة من الأمر .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ببقية من علم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُريب ، قال : سُئل أبو بكر ، يعني ابن عياش عن أثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال : بقية من علم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأثارة : البقية من علم ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وهي مصدر من قول القائل : أثر الشيء أثارة ، مثل سمج سماجة ، وقبح قباحة ، كما قال راعي الإبل :

وذاتِ أثارةٍ أكَلَتْ عَلَيْها *** نَبَاتا فِي أكِمتِهِ قَفَارَا

يعني : وذات بقية من شحم ، فأما من قرأه أوْ أثَرةٍ فإنه جعله أثرة من الأثر ، كما قيل : قترة وغبرة . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه «أوْ أثْرةٍ » بسكون الثاء ، مثل الرجفة والخطفة ، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم ، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط ، ومن علم استثير من كُتب الأوّلين ، ومن خاصة علم كانوا أوثروا به . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط ، سنذكره إن شاء الله تعالى ، فتأويل الكلام إذن : ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب ، بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدّعون لاَلهتكم ، أو ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون من ذلك إنْ كُنْتُمْ صادِقِين في دعواكم لها ما تدّعون ، فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغنِ عن المدّعي شيئا .