واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه :
( وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ) . .
فزعموا لله - سبحانه - أبوة ، على تصور من التصورات ، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ، ولا تستقيم الحياة ، إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ؛ والقوانين ، والنظم والأوضاع ، دون أن تتداخل الاختصاصات ، بتداخل الصفات والخصائص ، وتداخل الألوهية والعبودية . . فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب ، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف !
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم ! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه ! وأنه سبحانه - يحابي فريقا من عباده ، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين ! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور ؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف ؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور ، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء :
( قل : فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) . .
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة ؛ فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية !
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء ، وأن مصير كل شيء إليه :
( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) . .
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته ، ويصير إليه الجميع . .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . .
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول . وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولي زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرو ، وشأس بن عديّ ، فكلموه ، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى ، فأنزل الله جلّ وعزّ فيهم : وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ . . . إلى آخر الاَية . وكان السديّ يقول في ذلك بما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ والنّصَارَى نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤُهُ أما أبناء الله فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كلّ مختون من ولد إسرائيل ، فأُخْرجهم . فذلك قوله : لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُوداتٍ . وأما النصارى ، فإن فريقا منهم قال للمسيح : ابن الله .
والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت مُخْرج الخبر عن الجماعة ، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم ، فتقول : نحن الأجواد الكرام ، وإنما الجواد فيهم واحد منهم وغير المتكلم الفاعل ذلك ، كما قال جرير :
نَدسْنا أبا مَندوسة القَيْنَ بالقَنَا ***وَما رَدَمٌ من جارِ بَيْبَةَ ناقعُ
فقال : «ندسنا » ، وإنما النادس : رجل من قوم جرير غيره ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم . فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك على هذا الوجه إن شاء الله . وقوله : وأحِبّاؤُهُ وهو جمع حبيب ، يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ رَبّكُمْ ؟ يقول : فلأيّ شيء يعذّبكم ربكم بذنوبكم إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه ، فإن الحبيب لا يعذّب حبيبه ، وأنتم مقرّون أنه معذّبكم . وذلك أن اليهود قالت : إن الله معذّبنا أربعين يوما عدد الأيام التي عبدنا فيه العجل ، ثم يخرجنا جميعا منها فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كنتم كما تقولون أبناءُ الله وأحباؤه ، فلم يعذّبكم بذنوبكم ؟ يُعلمهم عزّ ذكره أنهم أهل فِرية وكذب على الله جلّ وعزّ .
القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يشاءُ .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه بل أنتم بشر ممن خلق ، يقول : خلق من بني آدم ، خلقكم الله مثل سائر بني آدم ، إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم كما سائر بني آدم مَجْزِيّون بإحسانهم ، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم كما غيركم مجزىّ بها ، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه ، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبه ، فيصفح عنه بفضله ، ويسترها عليه برحمته ، فلايعاقبه بها . وقد بينا معنى المغفرة في موضع غير هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول : ويعدل على من يشاء من خلقه ، فيعاقبه على ذنوبه ، ويفضحه بها على رءوس الأشهاد ، فلا يسترها عليه ، وإنما هذا من الله عزّ وجلّ وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى ، المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله ، الذين فضلهم الله بطاعتهم إياه ، واجتنابهم معصيته ، لمسارعتهم إلى رضاه ، واصطبارهم على ما نابهم فيه . يقول لهم : لا تغتروا بمكان أولئك مني ، ومنازلهم عندي ، فإنهم إنما نالوا مني بالطاعة لي ، وإيثار رضاي على محابهم ، لا بالأماني ، فجِدّوا في طاعتي ، وانتهوا إلى أمري ، وانزجروا عما نهيتهم عنه ، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي ، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي ، لا لمن قرُبت زلفة آبائه مني ، وهو لي عدوّ ولأمري ونهيي مخالف . وكان السديّ يقول في ذلك بما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذّبه .
القول في تأويل قوله تعالى : ولِلّهِ مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضه وَما بَيْنَهُما وإلَيْهِ المَصِيرُ .
يقول : لله تدبير ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، وتصريفه ، وبيده أمره ، وله ملكه ، يصرّفه كيف يشاء ويدبره كيف أحبه ، لا شريك له في شيء منه ولا لأحد معه فيه ملك ، فاعلموا أيها القائلون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، أنه إن عذّبكم بذنوبكم ، لم يكن لكم منه مانع ولا لكم عنه دافع لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيَه لسبب ذلك ، ولا لأحد في شيء ومرجعه . فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه ، ولا تغترّوا بالأماني وفضائل الاَباء والأسلاف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.