سورة العلق مكية وآيتها تسع عشرة
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
" أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى ? فأخبره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أو مخرجي هم ? " فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال :
" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ . فقلت : ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم قال : فقرأته . ثم انتهى ، ثم انصرف عني . وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . " . .
وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا . .
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذه الخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك !
ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد !
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? ) . . . الخ
ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : ( اقرأ باسم ربك ) . .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) .