تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة العلق

أهداف سورة العلق

( سورة العلق مكية ، وهي أول ما نزل من القرآن الكريم ، وعدد آياتها 19 آية )

مع آيات السورة

1-5- ورد في كتب الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حراء ، فجاءه الملك فضمّه ضمّا شديدا حتى بلغ منه الجهد ثلاث مرات ، ثم قال :

اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم .

اقرأ باسم الله وقدرته ، الذي أحكم الخلق ، وهو بديع السماوات والأرض ، خلق الإنسان من دم متجمد ، يعلق بجدار الرحم ، فسواه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام ، فكسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .

اقرأ وربك الأكرم الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ، ينعم على عباده بالنعم ، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة .

ومن الله يستمد الإنسان كل ما علم وكل ما يعلم ، والله هو الذي خلق وهو الذي علّم فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة .

وقد كان صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله ، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ، وسيره ونزوله ، وسفره وإقامته ، ولقد كان واجب كل إنسان أن يعرف ربه ويشكره ، ولكن الذي حدث غير هذا .

6-8- كلا إن الإنسان ليتجاوز الحد في التعدي ، أن رأى نفسه مستغنيا ، إن إلى ربك الرجوع والحساب ، فليس هناك مرجع سواه ، إليه يرجع الغني والفقير ، والصالح والشرير ، ومنه النشأة وإليه المصير .

وكان أبو جهل يقول : أو رأيت محمدا ساجدا لوطئت عنقه ، فأنزل الله عز وجل :

9-14- أرأيت الذي ينهى* عبدا إذا صلى . أي : أرأيت أبا جهل ينهى محمدا عن الصلاة ؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي على الهدى أو أمر بالتقوى ، ثم ينهاه من ينهاه مع أنه على الهدى وآمر بالتقوى ؟

أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذبا بالحق متوليا عنه : ألم يعلم بأن الله يرى . ويطلع على أحواله ، ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى ، وسيؤاخذه على ذلك ، وقد وردت روايات صحيحة ، تفيد أن أبا جهل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، فأغلظ له الرسول القول ، فقال أبو جهل : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، أي مجلسا يجتمع فيه القوم والأعوان .

15-19- وأمام مشهد الطغيان يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير : كلا لئن لم يرجع عما هو فيه ، لنقبضن على ناصيته ، ولنجذبنها جذبا شديدا عنيفا ، فهي ناصية كذّبت الحق وأخطأت الطريق ، فليدع أهل ناديه لينتصروا له وليمنعوه منا ، ندع الزبانية الشداد الغلاظ ، كلا لا تطع هذا الطاغي ، واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة ، فهو الحصن والملجأ ، وهو نعم المولى ونعم النصير .

مقاصد سورة العلق

تشتمل سورة العلق على المقاصد الآتية :

1- حكمة الله في خلق الإنسان من قطعة لحم بجدار الرحم ، ثم تكوينه خلقا كاملا ، يبسط سلطانه على كثير من الكائنات .

2- من كرم الله وإنعامه أن علّم الإنسان البيان ، وأفاض عليه الكثير من النعم ، مما جعل له القدرة على غيره مما في الأرض .

3- لقد غفل الإنسان عن هذه النعم ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر .

***

تمهيد من السنة المطهرة

عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه –وهو التعبد- الليالي دوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه ، فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فقلت : ما أنا بقارئ- قال- فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق- حتى بلغ- ما لم يعلم ) .

قال : فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة فقال : ( زمّلوني زمّلوني ) ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : ( يا خديجة ، ما لي ) ؟ ! وأخبرها الخبر ، وقال : ( قد خشيت على نفسي ) . فقالت له : كلاّ ، أبشر فوالله لا يخزيك أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمى ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيه جذعا ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجيّ هم ) ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي )i .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ اقرأ باسم ربك الذي خلق 1 خلق الإنسان من علق 2 اقرأ وربك الأكرم 3 الذي علّم بالقلم 4 علّم الإنسان ما لم يعلم 5 كلاّ إنّ الإنسان ليطغى 6 أن رآه استغنى 7 إنّ إلى ربك الرجعى 8 أرأيت الذي ينهى 9 عبدا إذا صلى 10 أرأيت إن كان على الهدى 11 أو أمر بالتقوى 12 أرأيت إن كذّب وتولّى 13 ألم يعلم بأن الله يرى 14 كلاّ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية 15 ناصية كاذبة خاطئة 16 فليدع ناديه 17 سندع الزّبانية 18 كلاّ لا تطعه واسجد واقترب 19 }

المفردات :

اقرأ : أي ما يوحى إليك ويتلى .

باسم ربك : مبتدئا ومستعينا باسمه تعالى .

التفسير :

1 ، 2- اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق .

هذه الآيات هي أول آيات نزلت من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء ، إنها أول آيات من وحي السماء ، إنها تمثل نقلة كبيرة في حياة الإنسان ، حيث يتفضل الإله العلي الكبير ، القادر الفعّال لما يريد ، فينزل وحي السماء ، ويربط الإنسان المخلوق بوحي الله الخالق ، وينزل الوحي يحمل الهدى والتشريع ، والقصص وأخبار القيامة ، ويلفت النظر إلى الكون وما فيه ، ويرشد الإنسان إلى صفات الله وكمالاته ، ويرشده إلى المأمورات والمنهيات والأخلاقيات ، والرسالات والنبوات والغيبيات ، إنه كلام الله العلي القدير ، ورسالات السماء ، وفضائل الله على عباده ، حيث يختار رسولا من البشر فيوحي إلى عباده ما يشاء ، ويرسل جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم فينقل إليه القرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما ، كان الصحابة سعداء أن الوحي ينزل على نبيهم صباح مساء ، يعلّمهم ويرشدهم ، ويهذبهم ويشرّع لهم ، ويأخذ بأيديهم إلى طريق الهدى والرشاد ، لقد كان القرآن روحا وحياة ، وبعثا ورحمة وهداية .

قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . ( الشورى : 52 ) .

إن هذا الوحي هو الذي طهّر هذه الأمّة ، وألهمها رشدها ، وأخرجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام .

عود إلى التفسير

اقرأ باسم ربك الذي خلق

كن قارئا للوحي يا محمد ، لا بحولك ولا بقوتك ولكن بقدرة الله الخالق ، فابدأ القراءة ، باسم ربك . أي باسم الله الرحمان الرحيم ، فهي بداية مباركة لأجلّ كلام ، للوحي الإلهي .

الذي خلق .

فهو سبحانه الخالق الذي خلق فسوّى ، هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، هو الخالق الذي خلق كل شيء ، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين . ( السجدة : 7 ) .