فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة اقرأ

ويقال لها سورة العلق وسورة القلم ، وهي تسع عشرة آية ، وقيل : عشرون آية ، وهي مكية بلا خلاف ، وهي أول ما نزل من القرآن ، قاله ابن عباس . وعن أبي موسى الأشعري قال : هي أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه .

ويدل على هذا الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديثها وفيه : فجاءه الحق وهو في غار حراء فقال له الملك : اقرأ ، الحديث ، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة ، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن ، ثم بعده نون والقلم ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، إلى آخر ما ذكره الخازن في أول تفسيره ، فإنه استوفى الكلام على ترتيب السور من جهة النزول بمكة ثم بالمدينة .

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة ، وذكر ذلك مكي في تفسيره سورة براءة ، وذكر أن ترتيب الآيات ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة ، وهذا أصح ما قيل في ذلك .

وقال قوم : إن ترتيب السور عن توقيف من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبيّ وعلي وعبد الله فإنما كان قبل عرض القرآن على جبريل في المرة الأخيرة ، وأن رسول الله صلى الله عليه سلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك .

روى يونس عن ابن وهب قال : سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الرد أن الله أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ، ثم فرقه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة ، فكانت السورة تنزل في أمر يحدث ، والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية ، فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف فكله عن رسول الله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام عن رب العالمين ، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الآيات ، وغير الحروف والكلمات ، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام ، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب ، وهو كان يقول : " ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن " وكان جبريل عليه السلام يوقف على مكان الآيات ، انتهى .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ اقرأ } قرأ الجمهور بسكون الهمزة أمرا من القراءة ، وقرئ بفتح الراء وكأنه قلب الهمزة ألفا ثم حذفها للأمر ، والأمر بالقراءة يقتضي مقروءا ، فالتقدير اقرأ ما يوحى إليك ، أو ما نزل عليك ، أم ما أمرت بقراءته .

وقوله { باسم ربك } متعلق بمحذوف هو حال اقرأ متلبسا باسم ربك ، أو مبتدأ به ، أو مفتتحا ، أو الباء زائدة ، أي اقرأ اسم ربك قاله أبو عبيدة ، وقال أيضا : والاسم صلة ، أي اذكر ربك ، وقيل : الباء بمعنى على أي اقرأ على اسم ربك ، يقال : افعل كذا باسم الله ، وعلى اسم الله ، قاله الأخفش ، وقيل : الباء للاستعانة ، أي مستعينا به ، وبسم الله تكتب من غير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال بخلاف قوله تعالى { اقرأ باسم ربك } فإنها لم تحذف فيه لقلة الاستعمال .

عن عبد الله بن شداد قال " أتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد اقرأ ، فقال : وما اقرأ ؟ فضمه ثم فقال : يا محمد اقرأ . قال : وما اقرأ ؟ قال اقرأ باسم ربك – حتى بلغ – ما لم يعلم " أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل .

في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة " فجاءه الملك فقال " اقرأ ، فقال : قلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلي فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال : اقرأ باسم ربك الخ " .

ثم الظاهر أن هذه الجملة ليست من القرآن ؛ لأن الأمر بتحصيل الشيء غير ذلك الشيء ، ولكن الإجماع على أنها من جملة القرآن خصوصا مع إثباتها في المصاحف بخطها سلفا وخلفا من غير نكير ، فعلم منه أنها من جملة القرآن ، تأمل .

قال السيوطي في إتقانه : إن أول السورة مشتمل على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال لكونها مما نزل من القرآن ، فإن فيها الأمر بالقراءة ، وفيها البداءة باسم الله ، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام ، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل ، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين ، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } ولهذا قيل : إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن ؛ لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله انتهى . ذكره ابن لقيمة في حاشية البيضاوي ، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وآله وسلم للإشعار بتبليغه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغاية القاصية من الكمالات ، البشرية ، قاله أبو السعود .

ثم وصف الرب بقوله { الذي خلق } لتذكير أول النعم الفائضة عليه منه تعالى ، لأن الخلق هو أعظم النعم وعليه يترتب سائر النعم ، قال الكلبي : يعني الخلائق ، وفيه تنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة وما يتبعها من الكمالات قادر عل تعليم القراءة .