السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي عشرون آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وسبعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية { الرحمن } الذي عم جوده سائر البرية { الرحيم } الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية .

عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن .

{ اقرأ باسم ربك } وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى : { ما لم يعلم } وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة » ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق » . وفي رواية «حتى فجاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، . قلت : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، . قال : فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : { اقرأ باسم ربك } حتى بلغ { ما لم يعلم } فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني أكون فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجيّ هم ؟ فقال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي » زاد البخاري قال : «وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه السلام فقال له : يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه ، وتقرّ نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك ، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له : مثل ذلك » . ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن ، وفيه ردّ على من قال : إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن ، وعلى من قال : إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم . وهذا الحديث من مراسيل الصحابة ، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني . وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية ، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي .

تنبيه : محل{ باسم ربك } النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك أو مستعيناً به ، قل : بسم الله ثم اقرأ . وقال أبو عبيدة : مجازه اقرأ اسم ربك ، يعني : أنّ الباء زائدة ، والمعنى : اذكر اسمه ، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديباً . وقيل : الباء بمعنى على ، أي : أقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] قاله الأخفش . فإن قيل : كيف قدم هذا الفعل على الجارّ وقدر مؤخراً في بسم الله الرحمن الرحيم ، أي : على سبيل الأولوية كما في { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 4 ]ولأنه تعالى مقدم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكراً ؟ أجيب : بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت ، فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض ، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه . وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسملة والحمدلة .

وقوله تعالى : { الذي خلق } يجوز أن لا يقدّر له مفعول ، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ، وأن يقدّر له مفعول ، ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ؛ لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض .