الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي مائتان وثمانون حرفاً ، واثنتان وسبعون كلمة ، وتسع عشرة آية .

أخبرنا الجباري قال : حدّثنا ابن حيّان قال : أخبرنا الفرقدي قال : حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدّثنا يوسف بن عطية قال : حدّثنا هارون بن كثير قال : حدّثنا زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) اقرأ باسم ربّك ( فكأنّما قرأ المفصّل كله ) .

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } أي الدم ، واحدتها علقة ، وإنما جمع ولفظ الإنسان واحد ، لأنه في معنى الجمع ، وهذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله { مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، وعلى هذا أكثر العلماء .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون وعبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبدالرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت : " أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب [ الله ] إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد [ في ] الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها ، حتى فجأه الحق ، وهو في غار حراء . قال : فجاءه الملك وقال : اقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت له : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقاري ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : ( اقرأ باسم ربّك الذي خلق ) ، حتى بلغ ( ما لم يعلم ) " . فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : " يا خديجة مالي ؟ " وأخبرها الخبر ، وقال : قد خشيت عليّ ؟ قالت له : كلاّ ابشر ، فوالله لا يحزنك الله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكَلّ ، وتُقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي ، وهو ابن عم خديجة ، وكان امرأً تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة بن نوفل : يا بن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أُنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجي هم ؟ " ، فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئتَ به إلاّ عُوديَ وأُوذيَ ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة ، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً ، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك " .

قال الزهري : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن جابر بن عبد الله قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه : " فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثيت منه رعباً ، فرجعت فقلت : زمّلوني ، زمّلوني ، فدثّروني " وأنزل الله سبحانه

{ يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] إلى قوله سبحانه { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] . قبل : أن تفرض الصلاة ، وهي الأوثان ، ثم كان ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بعد اقرأ والمدثر ، { ن وَالْقَلَمِ } [ القلم : 1 ] إلى قوله :{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] ، ثم { وَالضُّحَى } [ الضحى : 1 ] .

أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم ، عن ابن جرير قال : حدّثنا ابن أبي الشوارب قال : حدّثنا عبد الواحد قال : حدّثنا سليمان الشيباني قال : حدّثنا عبد الله بن شداد قال : " نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ، ثم أبطأ عليه جبرائيل ، فقالت له خديجة : ما أرى إلاّ قد قلاك ، فأنزل الله سبحانه { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1-3 ] " .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشير قال : حدّثنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : إن أول سورة نزلت { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أبو عامر العقدي ، عن قرّه بن خالد ، عن أبي رجاء العطاردي قال : كان أبو موسى يُقرئُنا القرآن في هذا المسجد فنقعد له حلقاً حلقاً ، كأني أنظرُ إليه الآن في ثوبين أبيضين ، فعنه أخذتُ هذه السورة : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } .

وقال : كانت أول سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب .

أخبرنا محمد بن حمدويه وعبد اللّه بن حامد قالا : حدّثنا محمد قال : حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال : حدّثنا يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل " أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً " . فقالت : معاذ اللّه ، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك ، فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدّق الحديث .

فلمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه وليس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [ في الدار ] ثم ذكرت خديجة له وقالت : يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل ، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده ، وقال : انطلق بنا إلى ورقة ، فقال : " من أخبرك ؟ " فقال : خديجة . فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال : " إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي : يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض " .

فقال له : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني ، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل : { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 1-2 ] حتّى بلغ { وَلاَ الضَّآلِّينَ } [ الفاتحة : 7 ] قل : لا إله إلاّ اللّه ، فأتى ورقة فذكر ذلك له ، فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم ، وأنّك على مثل ناموس موسى ، وأنّك نبي مرسل ، وأنّك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك ، فلمّا توفي ورقة قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني "

يعني ورقة ، قالوا : وقال ورقة :

فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي *** حديثك إيّانا فأحمد مرسلُ

وجبريل يأتيه وميكال معْهما *** من اللّه وحيٌ يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز عزٌ لدينه *** ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلل

فريقان منهم فرقة في جنانه *** وأُخرى بأغلال الجحيم تغلغل