التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم { سورة اقرأ باسم ربك } فأخبرت عن السورة ب{ اقرأ باسم ربك } . وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري ، وبذلك عنونها الترمذي .

وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير { سورة العلق } لوقوع لفظ { العلق } في أوائلها ، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير .

وعنونها البخاري { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .

وتسمى { سورة اقرأ } ، وسماها الكواشي في التخليص { سورة اقرأ والعلق } .

وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي { سورة القلم } وهذا اسم سميت به { سورة ن~ والقلم } ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة { سورة القلم } يسمون الأخرى { سورة ن~ } . ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم .

وهي مكية باتفاق .

وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة ، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } . ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة . وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف .

وعن جابر أول سورة المدثر ، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في الإتقان كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية .

وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون ، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة ، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة .

أغراضها

تلقين محمد صلى الله عليه وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل .

والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء .

وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم .

وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر .

وتهديد من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى .

وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله .

وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله .

وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم .

هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لِما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريباً .

وافتتاح السورة بكلمة { اقرأ } إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئاً ، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب } [ العنكبوت : 48 ] ، أي من قبل نزول القرآن ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ : " ما أنا بقارىء " .

وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن .

وقوله تعالى : { اقرأ } أمر بالقراءة ، والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب .

وتقدم في قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم } في سورة النحل ( 98 ) .

والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : { اقرأ } أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول مَا سَيُمْلَى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سُلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المُعلم للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .

وفي حديث « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه : « حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد ، ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } .

فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال : " فقلت : ما أنا بقارىء " . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه : « فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فُؤاده » أي فرجع بالآيات التي أُمليَتْ عليه ، أي رجع متلبساً بها ، أي بوعيها .

وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه . وقرأه حينئذٍ ويزيد ذلك إيضاحاً قولها في الحديث : « فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك » ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه وهذا ينبىء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الغطة الثالثة : { اقرأ باسم ربك } الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذٍ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها وعلى هذا الوجه يكون قول المَلك له في المرات الثلاث { اقرأ } إعادة للفّظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .

ولم يُذكر لِفعل { اقرأ } مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن .

وقوله { باسم ربك } فيه وجوه :

أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة { اقرأ } وهو أول المقروء ، أي قل : باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدىء ويجوز أن يتعلق ب { اقرأ } الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله . ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحامُ كلمة ( اسم ) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { باسم الله } حين تلقَّى هذه الجملة .

الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير { اقرأ } الثاني مقدَّماً على عامله للاختصاص ، أي اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك ( اسمَ ربك ) . فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية وإبطالاً للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللاتِ ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة . فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوَحي .

الثالث : أن تكون الباء بمعنى ( على ) كقوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . والمعنى : اقرأ على اسم ربك ، أي على إذنه ، أي أن المَلَك جاءك على اسم ربك ، أي مرسلاً من ربك ، فذكر ( اسْم ) على هذا متعين .

وعدل عن اسم الله العَلم إلى صفة { ربك } لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به ، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده رداً على الذين جعلوا لأنفسهم أرباباً من دون الله فكانت هذه الآية أصلاً للتوحيد في الإسلام .

وجيء في وصف الربّ بطريق الموصول { الذي خلق } ولأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر ، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق ، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى ، وكونُ الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] فلما كان المقام مقام ابتداء كتاب الإسلام دين التوحيد كان مقتضياً لذكر أدلّ الأوصاف على وحدانيته .