{ 73-77 } { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا }
يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق ، فقال : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا } أي : قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه ، وتحيلوا لك ، على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك ، فتجيء بما يوافق أهواءهم ، وتدع ما أنزل الله إليك .
{ وَإِذَا } لو فعلت ما يهوون { لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } أي حبيبًا صفيًا ، أعز عليهم من أحبابهم ، لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، المحببة للقريب والبعيد ، والصديق والعدو .
ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة ، إلا للحق الذي جئت به لا لذاتك ، كما قال الله تعالى { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا ، فالجملة عطف على جملة { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] ، وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم ، وهي حال طَمعهم في أن يستنزلوا النبي لأن يقول قولاً فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه .
وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش ، أي مُتولوا تدبيرَ أمورهم .
وغُيّر الأسلوب من خطابهم في آيات { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر } [ الإسراء : 66 ] إلى الإقبال على خطاب النبي لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان .
والفتْن والفتون : معاملةُ يلحق منها ضُرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها ، من تغلب على القوة وعلى الفِكر ، وتقدم في قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] .
وعدي { يفتنونك } بحرف ( عَن ) لتضمينه معنى فعللٍ كان الفَتن لأجله ، وهو ما فيه معنى ( يصرفونك ) .
هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون .
وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي ، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية ، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف . ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعُدّونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل : بلال ، وعمار بن ياسر ، وخباب ، وصهيب ، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك ؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم ، وأن رسول الله هم بأن يُظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون ، فيكون المراد من { الذي أوحينا إليك } بعض الذي أوحينا إليك ، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية [ الأنعام : 52 ] ، أو ما فيه تنقيص الأصنام .
وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاقّ ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار . وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول :
إن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين ، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم ؛ أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين ، وليس فيه فوات شيء على المسلمين ، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه .
فالموصول في قوله : { الذي أوحينا إليك } للعهد لما هو معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته . فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد ، ومساقَ إظهار مَلَل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها ، وفي ذلك تثبيت للنبيء وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون .
وقوله : { لتفترى علينا غيره } متعلق ب { يفتنونك } ، واللام للعلة ، أي يفعلون ذلك إضماراً منهم وطمعاً في أن يفتري علينا غيره ، أي غير ما أوحي إليك . وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر ، فهو راجع إلى نياتهم . وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي عليه الصلاة والسلام همّ بذلك كما فهمه بعض الفسرين ، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه .
و ( إنْ ) من قوله : { وإن كادوا ليفتنونك } مخففة من ( إن ) المشددة واسمها ضمير شأن محذوف ، واللام في { ليفتنونك } هي اللام الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة وبين ( إنْ ) النافية فلا تقتضي تأكيداً للجملة .
وجملة { وإذا لاتخذوك خليلاً } عطف على جملة { وإن كادوا ليفتنونك } . و ( إذاً ) حرف جزاء والنُّون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل { يفتنونك } بما معه من المتعلقات مقحماً بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع ( إذا ) مفيدة معنى فاء التفريع .
ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي عليه الصلاة والسلام فيها وألحوا عليه فناسب أن يعطف على جملة أحوالهم . والتقدير : فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلاً . واللام في قوله : { لاتخذوك } اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط ، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلاً .
واللام في قوله : { لاتخذوك } لام جواب ( لو ) إذ كان فعلاً ماضياً مثبتاً .
والخليل : الصديق . وتقدم عند قوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } في سورة [ النساء : 125 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.