تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (7)

ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي : طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ، ولا ينفذ فيها ، فلا يعون ما ينفعهم ، ولا يسمعون ما يفيدهم .

{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أي : غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم ، وهذه طرق العلم والخير ، قد سدت عليهم ، فلا مطمع فيهم ، ولا خير يرجى عندهم ، وإنما منعوا ذلك ، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا عقاب عاجل .

ثم ذكر العقاب الآجل ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو عذاب النار ، وسخط الجبار المستمر الدائم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (7)

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )

وقوله تعالى : { ختم الله } مأخوذ من الختم وهو الطبع ، والخاتم الطابع ، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة ، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعاً إصبعاً . ( {[196]} )

وقال آخرون : ذلك على المجاز ، وأن ما اخترع( {[197]} ) الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختماً .

وقال آخرون ممن حمله على المجاز( {[198]} ) : «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده ، كما يقال أهلك المال فلاناً وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه( {[199]} ) » .

وقرأ الجمهور : { وعلى سمعهم } .

وقرأ ابن أبي عبلة : «وعلى أسماعهم » ، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير ، وأيضاً فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد ، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه .

والغشاوة الغطاء المغشي الساتر ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]

هلا سألت بني ذبيان ما حسبي . . . إذا الدخان تغشى الأشمط البرما( {[200]} )

وقال الآخر( {[201]} ) : [ الحارث بن خالد المخزومي ] : [ الطويل ]

تبعتك إذ عيني عليها غشاوة . . . فلما انجلتْ قطعت نفسي ألومها

ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره .

وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة » بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة ، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع ، والغشوة على الأبصار ، والوقوف على قوله { وعلى سمعهم } .

وقرأ الباقون «غشاوةٌ » بالرفع .

قال أبو علي : «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله( {[202]} ) على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به » وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه { ختم } تقديره وجعل على أبصارهم ، فيجيء الكلام من باب :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** متقلداً سيفاً ورمحاً( {[203]} )

وقول الآخر : [ الرجز ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . علفتها تبناً وماءً بارداً( {[204]} )

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار . فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة « .

قال : » ولم أسمع من الغشاوة فعلاً مصرفاً بالواو ، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة( {[205]} ) من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء ، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة .

وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف في قوله { على قلوبهم } .

وقال آخرون : » الختم في الجميع ، والغشاوة هي الخاتم( {[206]} ) « .

قال القاضي أبو محمد : وقد ذكرنا( {[207]} ) اعتراض أبي عليّ هذا القول .

وقرأ أبو حيوة » غَشوة « ، بفتح الغين والرفع ، وهي قراءة الأعمش .

وقال الثوري : » كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غَشيةٌ » بفتح الغين والياء والرفع « .

وقرأ الحسن : » غُشاوة «بضم الغين ، وقرئت » غَشاوة «بفتح الغين ، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة الأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنابة والعصابة والربابة وغير ذلك . ( {[208]} )

قوله تعالى : { ولهم عذاب عظيم } معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك ، و { عظيم } معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد .


[196]:- إسناد الختم إلى الله تعالى جار على أن جميع الحوادث تستند إليه تعالى من حيث الخلق والإيجاد، وورود الآية الكريمة ناعية على الكفرة سوء تصرفهم وقبح سلوكهم لكون أفعالهم من حيث الكسب مستندة إليهم، والمعتزلة تكلفوا مسلك التأويل في هذا المقام، وأكثروا من القول والكلام جريا وراء مذهبهم من أن المنع من الإيمان قبيح لا يليق به تعالى. وأهل الحق يقولون: الله خلق كل شيء، كما نطق بذلك القرآن، فهو خالق الخير والشر.
[197]:- أي خلق، يقال: اخترع الله الكائنات ابتدعها من العدم، وتلك من عبارة ابن عطية رحمه الله في هذا التفسير.
[198]:- المجاز الأول مجاز الاستعارة، والمجاز الثاني مجاز الإرسال، تأمل.
[199]:- بمعنى أن الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم هو سوء كسبهم، وفساد عقلهم.
[200]:- الأشمط الذي خالطه الشيب، والبرم بالتحريك الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، والنابغة إسمه زياد بن معاوية.
[201]:- هو الحارث بن خالد المخزومي كما في لسان العرب- وفي رواية صحبتك بدل تبعتك.
[202]:- بحيث تقول: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم، على أن غشاوة مصدر نائب عن الفعل، وهذا إنما يكون في الدعاء لا في الخبر، وذلك ما يناسب المذهب الاعتزالي لأبي علي الفارسي الذي كان متهما به.
[203]:- قائله عبد الله بن الزبعرى كما في الكامل للمبرد، وأوله. يا ليت زوجك قد غدا ........................ أي وحاملا رمحا، وفي رواية: ورأيت زوجك في الوغى.
[204]:- صدره: لما حططت الرجل عنها واردا .......................... وقد قيل: إنه لذي الرمة.
[205]:- بالجيم والباء من قولهم: جبى الخراج كرمى وسعى، جٍباية وجِباوة بكسر الجيم فيهما.
[206]:- في بعض النسخ هي الختم.
[207]:- أي في مبحث قراءة من نصب غشاوة.
[208]:- تعليل لأرجحية الكسر، يعني أن العرب تستعمل مثل هذا الوزن في كل ما كان مشتملا على شيء كالعِمامة والقِلادة والكِناية وما شابه ذلك.