حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم أي : يصيبوه{[1203]} بأعينهم ، من حسدهم وغيظهم وحنقهم ، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي ، والله حافظه وناصره ، وأما الأذى القولي ، فيقولون فيه أقوالًا ، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم ، فيقولون تارة " مجنون " وتارة " ساحر " وتارة " شاعر " .
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه . وقيل : كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت ، فتنحر . وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثاً ، ثم يرفع جانب خبائه فتمر بها الإبل فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة وعدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك ، فعصم الله نبيه وأنزل : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } أي ويكاد ، ودخلت اللام في { ليزلقونك } لمكان إن ، وقرأ أهل المدينة : { ليزلقونك } بفتح الياء ، والآخرون بضمها ، وهما لغتان ، يقال : زلقه يزلقه زلقاً وأزلقه إزلاقاً . قال ابن عباس : معناه : ينفذونك ، ويقال : زلق السهم : إذا أنفذ . قال السدي : يصيبونك بعيونهم . قال النضر بن شميل : يعينونك . وقيل : يزيلونك . وقال الكلبي : يصرعونك . وقيل : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة . قال ابن قتيبة : ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء ، يكاد يسقطك . وقال الزجاج : يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك . وهذا مستعمل في كلام العرب يقول القائل : نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ، ونظراً يكاد يأكلني . يدل على صحة هذا المعنى : أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن ، وهو قوله : { لما سمعوا الذكر } وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ، { ويقولون إنه لمجنون } أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن .
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } عبارة عن شدة عداوتهم وإن مخففة من الثقيلة بدليل دخول اللام و{ ليزلقونك } معناه يهلكونك كقولك نظر فلان إلى عدوه نظرة كاد يصرعه وأصله من زلق القدم ، وقرئ بفتح الياء وضمها وهما لغتان وقيل : إن المعنى يأخذونه بالعين وكان ذلك في بني أسد كان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام فلا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين فأراد بعضهم أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم فعصمه الله من ذلك ، وقال الحسن : دواء من أصيب بالعين قراءة هذه الآية .
ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال ، وتوعدهم إلى أن قال : { ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم{[67788]} } وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن{[67789]} ، فكان التقدير تسبيباً عما فيها من النهي : فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه ، قال عاطفاً على هذا{[67790]} المقدر مخبراً له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم ، مؤكداً لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم : { وإن } أي وإنه { يكاد } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { الذين كفروا } أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل .
ولما كانت " أن{[67791]} " مخففة ، أتى باللام التي هي علمها فقال : { ليزلقونك } أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم { بأبصارهم } أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك{[67792]} فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح{[67793]} لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر{[67794]} للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي ، وهو من قولهم : نظر إليّ {[67795]}نظراً كاد{[67796]} يصرعني ، يعني{[67797]} لو أمكنه أن يصرعني به لصرعني كما قال تعالى
{ يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا }[ الحج : 72 ] وقيل : يهلكونك بإصابة العين{[67798]} ، قال القشيري : كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئاً بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ثم نظروا إلى ذلك الشيء وقال : ما أحسنه من شيء ، فيسقط المنظور إليه في الوقت ، ففعلوا ذلك بالنبي{[67799]} صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما أنصحه{[67800]} من رجل ، فحفظه الله منهم ، وللشيخين{[67801]} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" العين حق " وفي رواية عند أحمد{[67802]} وابن ماجة{[67803]} : " يحضر بها الشيطان وحسد ابن آدم " ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه : " العين حق{[67804]} ولو أن شيئاً سابق القدر سبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا{[67805]} " ولأبي نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه رفعه : " العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر " ولأبي داود{[67806]} من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها : " وإنها لتدرك الفارس فتدعثره " .
ولما ذكر هذا الإزلاق العظيم ، ذكر ظرفه معبراً بالماضي تذكيراً بالحال الماضية فقال : { لما سمعوا الذكر } أي القرآن الذي غلب{[67807]} عليه التذكير بأمور يعليها كل أحد من نفسه ، ومن الآفاق كان هواياه أول ما سمعوه حسداً على ما أوتيت من الشرف فكان سماعهم له باعثاً لما عندهم من البغض والحسد على أنه لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً بدلالة{[67808]} { ويقولون } أي قولاً لا يزالون يجددونه .
ولما كان صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عما يشين ، أكدوا قولهم : { إنه لمجنون * } حيرة في أمرك وتنفيراً عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان معك{[67809]} وارتبط بك واغتبط بما جئت به ، وعن الحسن أن قراءة هذه الآية دواء{[67810]} للإصابة بالعين .
قوله : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } نزلت هذه الآية حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصيبوه بالعين . فنظر إليه قوم من قريش فقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه . وكانت العين في بني أسد حتى أن الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعينها ( يصيبها بعينه ) ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر . وذكر أن رجلا كان معروفا بأنه عائن . أي يصيب بعينه الدابة أو الإنسان فما يلبث أن يهلك . فسأله المشركون أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل هذه الآية {[4608]} { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } إن ، مخففة من الثقيلة . ليزلقونك ، من الإزلاق وهو التنحية والإزالة . يقال : زلقه وأزلقه يزلقه تزليقا إذا نحّاه وأبعده ، وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه{[4609]} .
لقد أراد المشركون إزلاق النبي صلى الله عليه وسلم بإهلاكه وموته ، وهو المستفاد من قوله : { ليزلقونك بأبصارهم } أي ليعتانونك . رجل معيان وعيون ، أي شديد الإصابة بالعين{[4610]} وقيل : يصرعونك أو يصرفونك { بأبصارهم } أي بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه لفرط عداوتهم لك . وجملة القول أنهم يبتغون أن يصيبوك بالعين لإهلاكك .
أما العين فإنها حق وهي تصيب المعيون فتودي به . وفي ذلك روى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين " وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة " .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد أو جابر بن عبد الله أن رسول الله اشتكى فأتاه جبريل فقال : " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل حاسد وعين ، الله يشفيك " وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العين حق " .
وروى ابن ماجه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استعيذوا بالله فإن النفس حق " . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين " .
وروى عن علي ( رضي الله عنه ) أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتمّا فقال : يا محمد ما هذا الغم الذي أراه وجهك ؟ قال : " الحسن والحسين أصابتهما عين " قال : صدّق بالعين فإن العين حق ، أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات ؟ قال : " وما هن يا جبريل " قال : قل اللهم ذا السلطان العظيم والمنّ القديم ذا الوجه الكريم وليّ الكلمات التامات والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجن وأعين الإنس . فقالها النبي صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عوذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله " .
قوله : { ويقولون إنه لمجنون } ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن . وذلك لفرط حسدهم وكراهيتهم له ، ولروعة ما سمعوا من الكلام العجيب الذي لم يسمعوا بمثله من قبل . فلم يجدوا من فرية يفترونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يرموه بالجنون وهم موقنون بصدقه وأمانته ورجاحة عقله وروعة ما جاءهم به .