ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ *( 8 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) } .
النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر .
فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق لله ولعباده{[1010]} والتقوى ، وهي [ هنا ] : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم ، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا إلا بما يقربه من الله ، ويباعده من سخطه ، والفاجر يتهاون بأمر الله ، ويناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } أي : يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك ، { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } أي : يسرون في أنفسهم{[1011]} ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : { لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولون غير محذور ، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [ عليهم ] ، تحيط بهم ، ويعذبون بها { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم ، { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول وقرأ حمزة وينتجون وهو يفتعلون من النجوى ، وروي عن يعقوب مثله { وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله } فيقولون السام عليك أو أنعم صباحا والله تعالى يقول : { وسلام على عباده الذين اصطفى } ، ويقولون في أنفسهم فيما بينهم { لولا يعذبنا الله بما نقول }هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبيا ، { حسبهم جهنم }عذابا { يصلونها }يدخلونها { فبئس المصير }جهنم .
{ لَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } .
إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى : { نهوا عن النجوى } مؤذناً بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات ، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة : نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا ، فنزلت ، فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفاً .
وإن كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } [ المجادلة : 7 ] كما تقدم ، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } ، فالمراد ب { الذين نهوا عن النجوى } هم الذين عنوا بقوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] الآية .
و { ثم } في قوله : { ثم يعودون } للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين .
فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم .
والاستفهام في قوله : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } تَعجِيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه .
والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف { إلى } .
والتعريف في { النجوى } تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى . وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبىء عنه قوله تعالى : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا } [ المجادلة : 10 ] .
ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة ، قال الباجي في « المنتقى » : روي أن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بَدء الإِسلام ، فلما فشا الإِسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه .
قال ابن العربي في « أحكام القرآن » عند قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } الآية [ 114 ] في سورة النساء : إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين : أحدهما : الإِخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه ، والثاني : النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعدَ هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويَخُص به بعضهم بعضاً فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين اه .
وفي « الموطأ » حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد " زاد في رواية مسلم " إلا بإذنه فإن ذلك يُحزنه "
واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة ، وجمهور المالكية على أنه للتحريم ، قال ابن العربي في « القبس » : فإن كان قوله مخافة أن يُحزنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد انحسم التأويل ، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره . وقال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لا يتناجى أربعة دون واحد . وأما تناجي الجماعة دون جماعة فإنه أيضاً مكروه أو محرم اه . وحكى النّووي الإِجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التِّين بحديث ابن مسعود قال : فأتيته ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو في ملأٍ فساررته . وحديثُ عائِشة في قصة فاطمة دالّ على الجواز .
وقال ابن عبد البر : لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما .
وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما .
والقول في استعمال { ثم يعودون لما نهوا عنه } في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] .
وكذلك القول في موقع { ثم } عاطفة الجملة .
وصيغة المضارع في { يعودون } دالة على التجدد ، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا .
و « ما نهوا عنه » هو النجوى ، فعدل عن الإِتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله : { حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم .
وقرأ الجمهور { يتناجون } بصيغة التفاعل من نَاجى المزيد . وقرأه حمزة ورويس ويعقوب و { يَنْتَجُون } بصيغة الإِفتعال من نَجا الثلاثي المجرد أي سَارَّ غيره ، والافتعال يَرِد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا .
والإِثم : المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام الكفر وذم المسلمين .
و { العدوان } بضم العين : الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين .
ومعصيةُ الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها .
والياء للملابسة ، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة . فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين . وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل ، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله : { نهوا عن النجوى } وقوله : { ومعصيت الرسول } دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهَى اليهود عن أحوالهم . وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة ، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين .
{ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .
بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يخفتون لفظ « السلام عليكم » لأنه شعار الإِسلام ولما فيه من جمع معنى السلامة يَعدلون عن ذلك ويقولون : أَنْعِم صباحاً ، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية . نقله ابن عطية عن ابن عباس .
فمعنى { بما لم يحيك به الله } ، بغير لفظ السلام ، فإن الله حيّاه بذلك بخصوصه في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] . وحيّاه به في عموم الأنبياء بقوله : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] وتحية الله هي التحية الكاملة .
وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث : أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : السّامّ عليك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله : « وعليكم » . فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود . وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير { جاءوك } على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر .
أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين ، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم { رَاعِنا } [ البقرة : 104 ] تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم } [ البقرة : 104 ] ولم يُرد منه نهي اليهود .
ومعنى { يقولون في أنفسهم يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا عن أنفسكم } [ النور : 61 ] . وقوله : { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } [ النور : 12 ] ، أي ظن بعضهم ببعض خيراً ، أي يقول بعضهم لبعض .
ويجوز أن يكون المراد ب { أنفسهم } مجامعهم كقوله تعالى : { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } [ النساء : 63 ] ، أي قل لهم خالياً بهم ستراً عليهم من الافتضاح . وتقدم في سورة النساء [ 63 ] و { لولا } للتحضيض ، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، أي يقولون ما معناه لو كان محمد نبيئاً لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمهِ { لولا يعذبنا الله } فإن { لولا } للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له .
وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم ، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة . وفي الحديث : « لا أحد أصبر على أذىً يسمعه من الله ، يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا » وهذا من الغرور قال تعالى : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } [ فصلت : 23 ] ، ولذلك قال تعالى رداً على كلامهم { حسبهم جهنم } أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب .
وأصل { يصلونها } يصْلَون بها ، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} يعني اليهود كان بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده يتناجون بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فقال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما} للذي {نهوا عنه ويتناجون بالإثم} يعني بالمعصية {والعدوان} يعني الظلم {ومعصيت الرسول} يعني حين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فعصوه...
ثم أخبر عنهم، فقال: {وإذا جاءوك حيوك} يعني كعب بن الأشرف، وحيى بن أخطب، وكعب بن أسيد، وأبو ياسر، وغيرهم {حيوك بما لم يحيك به الله} يعني اليهود، قالوا: انطلقوا بنا إلى محمد، فنشتمه علانية كما نشتمه في السر، فقالوا: السام، يعنون بالسام السآمة والفترة، ويقولون: تسأمون يعني تتركون دينكم، فقالت عائشة، رضي الله عنها: عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عائشة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، فإنه ما وضع في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.. فلما خرجت اليهود من عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له، فالله يعلمه، ولو كان نبيا لأعلمه الله ما نقول، فذلك قوله: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} لنبيه وأصحابه يقول الله {حسبهم جهنم} شدة عذابها {يصلونها فبئس المصير} يعني بئس المرجع إلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى "من اليهود "ثُمّ يَعودُون" فقد نهى الله عزّ وجلّ إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول...
قوله: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} يقول جلّ ثناؤه: ثم يرجعون إلى ما نهوا عنه من النجوى {وَيَتَناجُونَ بالإثْمِ والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ} يقول جلّ ثناؤه: ويتناجون بما حرّم الله عليهم من الفواحش والعدوان، وذلك خلاف أمر الله ومعصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم...
وقوله: {وَإذا جاءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف الله جلّ ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار، أنهم كانوا يقولون: السام عليك... حدثنا ابن حُمَيد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عائِشَةُ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفُحْشَ»، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: «أَلَسْتِ تَرَيْنَنِي أرُدّ عَلَيْهِمْ ما يَقُولُونَ؟ أقُول: عَلَيْكُمْ» وهذه الآية في ذلك نزلت {وإذَا جاءوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهمْ لَوْلا يُعَذّبُنا الله بِمَا نَقُول، حَسْبُهُمْ جَهَنّم يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المَصِيرِ}...
وقوله جلّ ثناؤه: {وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذّبُنا اللّهُ بِمَا نَقُولُ} يقول جل ثناؤه: ويقول محيوك بهذه التحية من اليهود: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيعجل عقوبته لنا على ذلك، يقول الله: حسب قائلي ذلك يا محمد جهنم، وكفاهم بها يصلونها يوم القيامة، فبئس المصير جهنم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّقَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِم الْيَهُودُ، كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْك؛ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ السَّلَامَ ظَاهِرًا، وَهُمْ يَعْنُونَ الْمَوْتَ بَاطِنًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ [فِي رِوَايَةٍ]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا أَمْهَلَنَا اللَّهُ بِسبِّهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ؛ وَجَهِلُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَلِيمٌ لَا يُعَاجِلُ مَنْ سَبَّهُ، فَكَيْفَ مَنْ سَبَّ نَبِيَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبرُ عَلَى الْأَذَى من اللَّهِ تَعَالَى، يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا كَشْفًا لِسَرَائِرِهِمْ، وَفَضْحًا لِبَوَاطِنِهِمْ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ...
{ويتناجون بالإثم والعدوان} يحتمل؛
(أحدهما) أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان، لاسيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد.
(والثاني) أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم...
{حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة، أو بحسب المصلحة، فإذا لم تقتض المشيئة تقديم العذاب، ولم يقتض الصلاح أيضا ذلك، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول [صلى الله عليه وسلم] وضد الجماعة المسلمة بالمدينة. مع التعجيب من موقفهم المريب:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله، ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.
والآية توحي بأن خطة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم. وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة، وفي دسائسهم الخفية، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين.
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي: وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله. كأن يقولوا -كما كان اليهود يقولون- السام عليكم. وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليكم. بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم: لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا. أي في تحيتهم، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات.
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وبمجالسهم ومؤامراتهم. فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. الخ. مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم.
(حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير).
وكشف هذه المؤامرات الخفية، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم: (لولا يعذبنا الله بما نقول).. هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع. وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثماً لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمرداً على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين. فالجملة مُستأنفة استئنافاً ابتدائياً اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10]. ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة...وأُلْحِقَ بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما. وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا. و « ما نهوا عنه» هو النجوى...
{حسبهم جهنم على ما في الصلة من التسجيل على سفههم. والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإِثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإِثم والعدوان ملابسة المتناجَى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نهوا عن النجوى} وقوله: {ومعصيت الرسول} دلالة على أنهم منافقون لا يهود...
{لولا يعذبنا الله} فإن {لولا} للتحْضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أي لو كان نبيئاً لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له...
{حسبهم جهنم} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب. وأصل {يصلونها} يصْلَون بها، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن. وقوله: {فبئس المصير} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.