فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : غَطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية [ البقرة : 145 ] أي : إن من{[1225]} كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له ، ومن أضلَّه فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلّغهم الرّسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك ؛ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، و{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فقد{[1226]} كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ !
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .
والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ، أظهر ، ويفسر{[1227]} ببقية الآيات التي في معناها ، والله أعلم .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن أبي الهيثم{[1228]} عن عبد الله بن عمرو ، قال : قيل : يا رسول الله ، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نيأس ، فقال : «ألا أخبركم » ، ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار » . قالوا : لسنا منهم يا رسول الله ؟ قال : «أجل »{[1229]} .
وقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون { لا يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة ، والله أعلم ]{[1230]} .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
معنى الكفر( {[181]} ) مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر ، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في ليلة كفر النجوم غمامُها( {[182]} )
أي سترها ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر : [ ثعلبة بن صغيرة ] : [ الكامل ] .
فتذكر ثقلاً رثيداً بعدما . . . ألقت ذكاءَ يمينها في كافر( {[183]} )
ومنه قيل للزراع كفار ، لأنهم يغطون الحب ، ف «كفر » في الدين معناه غطى على قلبه( {[184]} ) بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله .
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود كفار قد أسلموا بعدها .
فقال قوم : «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد »( {[185]} ) .
وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب ، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظارائهم » وقال الربيع بن أنس : «نزلت في قادة الأحزاب( {[186]} ) وهم أهل القليب ببدر » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا حكي هذا القول ، وهو خطأ ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم ، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب ، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه ، وكل من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية . وقوله : { سواء عليهم } معناه معتدل عندهم( {[187]} ) ، ومنه قول الشاعر( {[188]} ) : [ أعشى قيس ] : [ الطويل ] .
وليل يقول الناس من ظلماتِهِ . . . سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها
قال أبو علي : في اللفظة أربع لغات : سوى( {[189]} ) بكسر السين ، وسواء بفتحها والمد ، وهاتان لغتان معروفتان ، ومن العرب من يكسر السين ويمد ، ومنهم من يضم أوله ويقصره ، وهاتان اللغتان أقل من تينك . ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا : «قيي( {[190]} ) ، وقواء » .
و { سواء } رفع على خبر { إن } ، أو رفع على الابتداء( {[191]} ) وخبره فيما بعده ، والجملة خبر { إن } ، ويصح أن يكون خبر { إن } { لا يؤمنون } .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع : «آنذرتهم » بهمزة مطولة( {[192]} ) ، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن ، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت ، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير ، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفاً ، وابن كثير لا يفعل ذلك . وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية . وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين ، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر : فبالهمزتين «أأنذرتهم » ، وما كان مثله في كل القرآن .
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما .
وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم » بحذف الهمزة الأولى ، وتدل { أم } على الألف المحذوفة ، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها ، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء . والإنذار إعلام بتخويف ، هذا حده ، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين .
قال الله عز وجل : { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }( {[193]} ) [ فصلت : 13 ] وقال : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }( {[194]} ) [ النساء : 40 ] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه .
وقوله تعالى : { آنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء عليّ أقعدت أم ذهبت ، وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام ، فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً . ( {[195]} )
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت، فكان ابن عباس يقول "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا "أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك. وكان يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم في جحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى الناس كافة...
[وعن] ابن عباس أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم، وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر...؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وقال آخرون: آيتان في قادة الأحزاب: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) إلى قوله: (ولهم عذاب عظيم) قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار "قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر.
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس، وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله، فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل. وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه فيجهله [معظم] اليهود وتعلمه الأحبار منهم، ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله، وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم، أن أمر من كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين.
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه، اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم..." الآيات، واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته؛ فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله "إن الذين كفروا" فإنه الجحود، وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس، وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم...
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وتأويل سواء: معتدل، مأخوذ من التساوي، كقولك متساو هذان الأمران عندي، وهما عندي سواء، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: "فانبذ إليهم على سواء: يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله: "سواء عليهم" معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار، لأنهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم؛ وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. والتعريف في {الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولاً كلّ من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم.
والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده. ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب. ف «كفر» في الدين معناه غطى على قلبه بالرِّين عن الإيمان، أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
وقوله تعالى: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" الإنذار: الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز، كان إشعارا ولم يكن إنذارا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين، وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين، وكان المنافقون قسمين؛ جهالاً من مشركي العرب، وعلماء من كفار بني إسرائيل. كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين؛ فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف، على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام، فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال منه كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟
{إن الذين كفروا} أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التي هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السياق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى {سواء عليهم أأنذرتهم} أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب {أم لم تنذرهم} أي وعدم إنذارك فيه و بعده.
وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام... ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} [الأعراف، الآية 193] وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنه داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} [طه: 134] فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ليتخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان لو كان ممتنعاً لذاته مطلقاً لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشئ من استعداده الأزلي باختياره السيئ... والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى: {قَدْ أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ} وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن وجد خيراً فليحمد الله» فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم لفضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{(6) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (7) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}. قال الأستاذ: كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث:
(الأول من الصنفين): أولئك الذين [بلغهم] لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس...
(والثاني): أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى {ومن الناس من يقول} الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه]. بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري.
وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
{لا يؤمنون} أقول: هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم وحق دعاة دينه، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له، إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قال القرافي... أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله وبصفاته، أو بالجرأة عليه. وهذا النوع هو المجال الصعب، لأن جميع المعاصي جرأة على الله... من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه، إذ لم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: « أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف،...
بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم.. وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير.. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون.. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان.. ولولا وجود هذا الشر.. أكان هناك ضرورة للإيمان.. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر..
والكافرون قسمان.. قسم كفر بالله أولا ثم استمع إلى كلام الله.. واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن.. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك.. وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا..
إذن الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر.. ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا..
هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر.. ومعنى كفر (أي) ستر.. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله.. والذي يستر لابد أن يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود.. والأصل في الكون هو الإيمان بالله.. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى.. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم أو استعلائهم على غيرهم من البشر..
ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر.. كيف؟..
لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه.. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.. وعلمه الأسماء كلها..
سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم.. والكفر ساعتها لم يكن موجودا.. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها.. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا..
ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيد حركة الناس في الكون.. فبدأ كل من يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر.. والعاقل حين يسمع كلمة كفر.. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود.. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود.. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28 "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "29 "}. (سورة البقرة).
وهكذا يأتي هذا السؤال.. ولا يستطيع الكافر له جوابا!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده.. ولا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره.. فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان.