وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .
ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]} الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم .
قال عمر : وأوصي الخليفة [ من ] {[28553]} بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو{[28554]} عن مسيئهم . رواه البخاري هاهنا أيضًا{[28555]} .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين{[28556]} ويواسونهم بأموالهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ! قال : " لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم " {[28557]} .
لم أره في الكتب من هذا الوجه .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : " إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [ بعدي ] {[28558]} أثرة " .
تفرد به البخاري من هذا الوجه{[28559]}
قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل . قال : لا . فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم{[28560]} .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة .
قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد .
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم . وكذا قال ابن زيد . ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلع رجل من الأنصار تَنظُف{[28561]} لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق{[28562]} نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى . فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته{[28563]} أيضًا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى{[28564]} فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني {[28565]} إليك حتى تمضي فعلتُ . قال : نعم . قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي{[28566]} فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر{[28567]} ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار{[28568]} يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " . فطلعت أنت الثلاث المرار{[28569]} فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير{[28570]} عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق{[28571]} .
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به {[28572]} وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس{[28573]} . فالله أعلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون . قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " . فقالوا : أموالنا بيننا قطائع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك ؟ " . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم{[28574]} الثمر " . فقالوا : نعم يا رسول الله{[28575]}
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28576]} يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ " . وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } {[28577]} [ الإنسان : 8 ] . وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه . ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " . فقال : أبقيت لهم الله ورسوله . وهذا{[28578]} الماء الذي عُرض{[28579]} على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟ " . فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا . فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية . قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة . ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة " . وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } {[28580]} .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه{[28581]} . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه .
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح .
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به{[28582]} .
وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به {[28583]} .
وقال الليث ، عن يزيد [ بن الهاد ]{[28584]} عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج{[28585]} عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا " {[28586]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا ! فقال عبد الله : ليس ذلك{[28587]} بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك{[28588]} البخل ، وبئس الشيء البخل " {[28589]}
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير{[28590]}
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " {[28591]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الأنصار، فأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ جعل المهاجرين دونهم. فقال: {والذين تبوءوا الدار} يعني أوطنوا دار المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين.
ثم قال: {والإيمان من قبلهم} من قبل هجرة المهاجرين.
ثم قال: للأنصار: {يحبون من هاجر إليهم} من المؤمنين.
{ولا يجدون في صدورهم} يعني قلوبهم.
{حاجة مما أوتوا} يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفيء.
{ويؤثرون على أنفسهم} يقول: لا تضيق.
{ولو كان بهم خصاصة} يعني الفاقة. فآثروا المهاجرين بالفيء على أنفسهم.
ثم قال: {ومن يوق شح نفسه} يعني ومن يقيه الله حرص نفسه، يعني الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء لإخوانهم.
فقد ذهب صنفان: المهاجرون والأنصار، وبقي صنف واحد، وهم التابعون الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة...
ابن العربي: قال ابن وهب: سمعت مالكا وهو يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ الآية: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} الآية. –
ابن رشد: قال مالك، زعموا أن عبد الرحمن بن عوف، اتبعه رجل في الطواف أي حول البيت فرآه يكثر من قوله: اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ} يقول: اتخذوا المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فابتنوها منازل، "وَالإيمَانَ" بالله ورسوله {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل المهاجرين.
{يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ}: يحبون من ترك منزله، وانتقل إليهم من غيرهم، وعُنِي بذلك: الأنصار يحبون المهاجرين. قال محمد بن عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عندما روى عنهم من ذلك، وإيثارهم إياهم، ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا} يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدورهم حاجة، يعني حسدا مما أوتوا، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا رجلين من الأنصار، أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يحبون من هاجر إليهم} يعني أن الله تعالى ألقى محبتهم في قلوبهم حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم، وأنفقوا عليهم أموالهم.
{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني أن الله تعالى أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا في حاجة ولا فقر البتة. ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة ههنا الغل والحسد؛ يعني أن الله تعالى طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة...
{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} إن الله تعالى خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها، وبغض المساوئ والمضار والهرب عنها. ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون وحمل النفس على ما يكرهون طلبا لنجاتهم وتوصلا إلى ثوابهم. ثم تكون وقاية الأنفس من الشح بوجهين:
أحد هما: أن يمن الله على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد، فيخفف عليه الإنفاق مما يحب، ويصير ذلك كالطبع له.
والثاني: يوفقه الله تعالى، ويعصمه، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه حتى يقهر نفسه، ويحملها على الائتمار بأمر الله تعالى والانتهاء عما نهى عنه، وإن كان طبعها على خلاف ذلك.
ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزائنه شيء، لم يؤته عبده حتى يصف نفسه بأنه بقي عنده شح نفسه، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها معنى، والله أعلم.
{فأولئك هم المفلحون} يعني الباقون في النعيم. والفلاح في الحقيقة، هو البقاء في النعيم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... قال ابن عباس: "قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) يوم النضير للأنصار: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة". فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها " فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس. عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها". عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشحّ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخصاصة: الحاجة التي يختل بها الحال.
والشح والبخل واحد. وفى أسماء الدين هو منع الواجب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}
ولا يَعْترِضون بقلوبهم على حُكْمِ الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجةٌ أو اختلالُ أحوالٍ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ومن يوق شح نفسه} من حفظ من الحرص المهلك على المال، وهو حرص يحمله على امساك المال عن الحقوق، والحسد، {فأولئك هم المفلحون}.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله: (والإيمان) أي: جعلوا دورهم دور الإيمان، وذلك بإظهارهم الإيمان فيما بينهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين تَبَوَّءُوا} معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوّؤا الإيمان؟ قلت: معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان أو: وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك. أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان.
{مِن قَبْلِهِمُ} من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوّئ دار الهجرة والإيمان.
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي خلة «الشح» بالضم والكسر: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها. وأما البخل فهو المنع نفسه. ومنه قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} [النساء: 128].
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}: ومن غلب ما أمرته به منه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الظافرون بما أرادوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم {يحبون} المهاجرين، وبأنهم {يؤثرون على أنفسهم}، وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم؛ لأن مقتضى قوله: {ومن يوق شح نفسه}: أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح. و «شح النفس»: هو كثرة منعها وضبطها على المال، والرغبة فيه، وامتداد الأمل، هذا جماع شح النفس، وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى الزكاة المفروضة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح».
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَقَالَ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
المسألة الْخَامِسَةُ: الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ.
المسألة السَّادِسَةُ: الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبِلَ من أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ».
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير؛ لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم".
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم، فطابت نفوس الأنصار بذلك... أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم، فقال عاطفاً على مجموع القصة: {والذين تبوؤا} أي جعلوا بغاية جهدهم {الدار} الكاملة في الدور، وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة، وجعلها دائرة على جميع البلدان، محيطة بها، غالبة عليها، محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم، لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً، فهي محل مناه، وليست موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها. ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمناً "تبوأوا " معنى لازم: {والإيمان} أي و لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين، فيكون كأنه قيل: تبوأوا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان، لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان، فلشدة ملابستها له سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها، بل محبة في الإيمان، علماً منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنهم متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.
{من قبلهم} أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله: {يحبون} أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، {من هاجر} وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله: {إليهم} لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة، أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم، وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء، وقبلوا منهم الأموال.
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال: {ولا يجدون} أي أصلاً {في صدورهم} التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم.
ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض، قال: {حاجة} موقعاً اسم السبب على المسبب {مما أوتوا} أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان، فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء، محذر من الحسد والاستياء.
ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل، أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال:
{ويؤثرون} عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة، وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها، لا على أحبائهم مثلاً بل {على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم {كائناً} من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل، لأن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله: {ولو كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله: {ومن} ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعباً جداً، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله: {يوق شح نفسه} أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده، حريصاً على ما عند غيره حسداً، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله {فأولئك}: أي العالو المنزلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الكاملون في الفوز بكل مراد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاما طائرة، ورؤى مجنحة، ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها، لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم، ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم، أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون، فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون، بَلْهَ أن يتطلبوه.
{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس، فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأضيف في هذه الآية إلى النفس، لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس. ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار، فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم، ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه.فمن وقي شح نفسه، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه. واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس. وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى.
... ولم يقف الأمر بالأنصار عند هذا الكرم والجود وإنما تعدّاه إلى الإيثار قال تعالى بعدها: {ويُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِم ولوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصةٌ.. 9} [الحشر] فالجود أنْ تعطى بعض ما عندك، أما الإيثار فأنْ تعطى كلّ ما عندك ولا تُبقي على شيء.
فالأنصار كانوا يُؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويُعطونهم ما يحتاجونه.
وكلمة (خصاصة) مأخوذة من (الخُص) وهو عشة صغيرة يصنعونها من عيدان الحطب، فهو شبه البيت لكنه لا يحمي صاحبه ولا يصون أهله، لذلك فهو بيت الفقير الذي لا يستطيع البناء.
فالخصاصة أي الفقر الشديد، فرغم ما كان بهم من الفقر والحاجة إلا أنهم كانوا يُؤثرون إخوانهم على أنفسهم. وقلنا إنهم أي الأنصار قدّموا لنا نموذجاً للعطاء لم يسبق له مثيل على مرّ التاريخ.
ثم تُقرر الآيات هذه الحقيقة {ومَن يوقَ شُحَّ نفْسه فأولئك هُمُ المُفلِحُون} المفلح من وقاه الله وجنّبه هذه الصفة الذميمة، وكلمة الشح البعض يقول البخل، لكن الشحّ أعم وأشدّ من البخل لأن البخل ينشأ عنها، نقول: شحّ الشيء إذا قلّ، وما دام قلَّ فلا بد أنْ تحافظ على هذا القليل حتى لا ينتهي وينفد من بين يديك.
فالشح إذن يُدخل في جوارحك وتصرفاتك البخل، ونستطيع أن نقول: الشح طبع القلب، والبخل طبع القالب.
كلمة {المُفْلِحُون} مأخوذة من فلاحة الأرض واستخراج خيراتها، لذلك نقول في الأذان: حيّ على الفلاح. أي: الفوز بكلّ خير.