وأنا { عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين مبين ، بصحته ، وبطلان ما عداه ، وهذه شهادة من الرسول جازمة ، لا تقبل التردد ، وهو أعدل الشهود على الإطلاق . فصدق بها المؤمنون ، وتبين لهم من صحتها وصدقها ، بحسب ما مَنَّ الله به عليهم .
{ وَ } لكنكم أيها المشركون – { كذبتم به } وهو لا يستحق هذا منكم ، ولا يليق به إلا التصديق ، وإذا استمررتم{[290]} على تكذيبكم ، فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة ، وهو عند الله ، هو الذي ينزله عليكم ، إذا شاء ، وكيف شاء ، وإن استعجلتم به ، فليس بيدي من الأمر شيء { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي ، فأمر ونهى ، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي ، فيثيب ويعاقب ، بحسب ما تقتضيه حكمته . فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع ، وقد أوضح السبيل ، وقص على عباده الحق قصا ، قطع به معاذيرهم ، وانقطعت له حجتهم ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } بين عباده ، في الدنيا والآخرة ، فيفصل بينهم فصلا ، يحمده عليه ، حتى من قضى عليه ، ووجه الحق نحوه .
وقوله : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي { وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } أي : بالحق الذي جاءني من [ عند ]{[10726]} الله { مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي : من العذاب ، { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } أي : إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عَجَّل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن شاء أنظركم وأجلكم ؛ لما له في ذلك من الحكمة العظيمة . ولهذا قال { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } أي : وهو خير من فصل القضايا ، وخير الفاتحين الحاكمين بين عباده .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّي عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصّ الْحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم ، الداعين لك إلى الإشراك بربك : إنّي على بَيّنَةٍ مِنْ ربي أي إني على بيان قد تبينته وبرهان قد وضح لي من ربي ، يقول : من توحيده ، وما أنا عليه من إخلاص عبوديته من غير إشراك شيء به وكذلك تقول العرب : فلان على بينة من هذا الأمر : إذا كان على بيان منه ، ومن ذلك قول الشاعر :
أبَيّنَةً تَبْغُونَ بَعدَ اعْتِرَافِهِ ***وقَوْلِ سُوَيْدٍ قدْ كَفَيْتُكُمْ بِشْرَا
وكَذّبْتُمْ بِهِ يقول : وكذبتم أنتم بربكم . والهاء في قوله «به » من ذكر الربّ جل وعزّ . ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يقول : ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي ، ولا أنا على ذلك بقادر . وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتوحيده ، فدعاهم إلى الله وأخبرهم أنه رسوله إليهم : هَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتأْتونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ وقالوا للقرآن : هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم : بل هو اختلاق اختلقه . وقال آخرون : بل محمد شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : أجبهم بأن الاَيات بيد الله لا بيدك ، وإنما أنت رسول ، وليس عليك إلاّ البلاغ لما أرسلت به ، وإن الله يقضي الحقّ فيهم وفيك ويفصل به بينك وبينهم فيتبين المحقّ منكم والمبطل . وهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ : أي وهو خير من بين وميز بين المحقّ والمبطل وأعدلهم ، لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة ، ولا في قضائه جور لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجوز ، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين . وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله : «وهُوَ أسْرَعُ الفَاصِلين » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال : في قراءة عبد الله : «يقضي الحقّ وهو أسرع الفاصلين » .
واختلفت القراء في قراءة قوله : «يَقْضِي الحَقّ » فقرأه عامة قرّاء الحجاز والمدينة وبعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة : إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقُصّ الحَقّ بالصاد بمعنى القصص ، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى : نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ . وذكر ذلك عن ابن عباس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : يَقُصّ الحَقّ ، وقال : نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ .
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة والبصرة : «إن الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقْضِي الحَقّ » بالضاد من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء . واعتبروا صحة ذلك بقوله : وَهُوَ خَيْرُ الفاصلِينَ وأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصص .
وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب لما ذكرنا لأهلها من العلة . فمعنى الكلام إذن : ما الحكم فيما تستعجلون به أيها المشركون من عذاب الله وفيما بيني وبينكم ، إلاّ الله الذي لا يجور في حكمه ، وبيده الخلق والأمر ، يقضي الحقّ بيني وبينكم ، وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه .
{ قل إني على بينة } تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه . والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي ، أو الحجج العقلية أو ما يعمها . { من ربي } من معرفته وأنه لا معبود سواه ، ويجوز أن يكون صفة لبينة . { وكذبتم به } الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره ، أو للبينة باعتبار المعنى . { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } . { إن الحكم إلا لله } في تعجيل العذاب وتأخيره . { يقص الحق } أي القضاء الحق ، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها ، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر ، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل . وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم " يقص " من قص الأثر ، أو من قص الخبر . { وهو خير الفاصلين } القاضين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.