{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أي في وسطها { أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ } في أي جهة من جهاتهما { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } لسعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار .
والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة اللّه ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قَلَّ أو كَثُرَ .
المعنى : وقال لقمان لابنه يا بني . وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى . وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه ؛ لأن الخردلة يقال : إن الحس لا يدرك لها ثقلا ، إذ لا ترجح ميزانا . أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه ؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض ، وعن اتباع سبيل من أناب إلي .
قلت : ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود : ( لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك ) . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ؛ سبحانه لا شريك له . وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله ؟ فراجعه لقمان بهذه الآية . وقيل : المعنى أنه أراد الأعمال ، المعاصي والطاعات ، أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله ، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه . وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك{[12585]} إلى تبيين قدرة الله تعالى . وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف .
قوله تعالى : " مثقال حبة " عبارة تصلح للجواهر ، أي قدر حبة ، وتصلح للأعمال ، أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة . ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر : قراءة عبد الكريم الجزري{[12586]} " فتكن " بكسر الكاف وشد النون ، من الكن الذي هو الشيء المغطى . وقرأ جمهور القراء : " إن تك " بالتاء من فوق " مثقال " بالنصب على خبر كان ، واسمها مضمر تقديره : مسألتك ، على ما روي ، أو المعصية والطاعة على القول الثاني ، ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال لقمان له : " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة " الآية . فما زال ابنه يضطرب حتى مات . قاله مقاتل . والضمير في " إنها " ضمير القصة ، كقولك : إنها هند قائمة ، أي القصة إنها إن تك مثقال حبة . والبصريون يجيزون : إنها زيد ضربته ، بمعنى إن القصة . والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا . وقرأ نافع : " مثقال " بالرفع ، وعلى هذا " تك " يرجع إلى معنى خردلة ، أي إن تك حبة من خردل . وقيل : أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه ؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة ، كما قال : " فله عشر أمثالها " {[12587]} [ الأنعام : 160 ] فأنث وإن كان المثل مذكرا ؛ لأنه أراد الحسنات . ومن هذا قول الشاعر :
مشيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تَسَفَّهَتْ *** أعاليَها مرُّ الرياح النَّوَاسِمِ{[12588]}
و " تك " ها هنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا .
قوله تعالى : " فتكن في صخرة " قيل : معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم ، أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض . وقال ابن عباس : الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض . وقيل : هي الصخرة على ظهر الحوت . وقال السدي : هي صخرة ليست في السموات والأرض ، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم ؛ لأنه قال : " أو في السموات أو في الأرض " وفيهما غنية عن قوله : " فتكن في صخرة " ، وهذا الذي قاله ممكن ، ويمكن أن يقال : قوله : " فتكن في صخرة " تأكيد ، كقوله : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان{[12589]} من علق " [ العلق : 2 ] ، وقول : " سبحان الذي أسرى بعبده{[12590]} ليلا " [ الإسراء : 1 ] .
ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة ، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها ، وأنها في علم الله سواء ، حسن جداً{[53897]} الرجوع إلى تمام بيان حكمته{[53898]} ، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد ، وعبر بمثقال الحبة{[53899]} لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال ، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه : { يا بني } متحبباً مستعطفاً ، مصغراً{[53900]} له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً : { إنها } أي العمل ، وأنث لأنه في مقام التقليل{[53901]} والتحقير ، والتأنيث أولى بذلك ، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية و{[53902]}الحسنة والسيئة{[53903]} { إن تك } وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء بما ينيل المفاز ، والدلالة على أقل الكون وأصغره { مثقال } أي وزن ، ثم حقرها بقوله : { حبة } وزاد في ذلك بقوله : { من خردل } هذا على قراءة الجمهور{[53904]} بالنصب ، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره - بما أشار إليه التأنيث .
ولما كان قد عرف أن{[53905]} السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها : { فتكن } إشارة إلى ثباتها في مكانها . وليزداد تشوف{[53906]} النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم{[53907]} كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف{[53908]} النون وإثبات هذه ، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز : { في صخرة } أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها .
ولما أخفى وضيق{[53909]} ، أظهر ووسع ، ورفع وخفض ، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال : { أو في السماوات } أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، وأعاد " أو " {[53910]} نصاً على إرادة كل منهما على حدته ، والجار تأكيداً للمعنى فقال : { أو في الأرض } أي{[53911]} كذلك ، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما{[53912]} ، وعبر له{[53913]} بالاسم الأعظم لعلو{[53914]} المقام فقال : { يأتِ بها الله } بعظم جلاله ، وباهر كبريائه وكماله ، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها ، فيحاسب عليها{[53915]} ، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن{[53916]} إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم{[53917]} يصحبها التوفيق : { إنّ الله } فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم { لطيف } أي عظيم المتّ{[53918]} بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أي أمر أراده حتى بضد{[53919]} الطريق الموصل فيما يظهر للخلق { خبير * } بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء{[53920]} ، ولا يفوته أمر .