{ 4-6 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
أي : { قُلْ } لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثانا وأندادا لا تملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، قل لهم -مبينا عجز أوثانهم وأنها لا تستحق شيئا من العبادة- : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئا ؟ هل خلقوا جبالا ؟ هل أجروا أنهارا ؟ هل نشروا حيوانا ؟ هل أنبتوا أشجارا ؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك ؟
لا شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضلا عن غيرهم ، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله فعبادته باطلة .
ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال : { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } الكتاب يدعو إلى الشرك { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك . من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك ، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك به ، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وكل رسول قال لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فعلم أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ولا دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة . يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة ؟
( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها ، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية ، يصعب التغلب عليها ومغالطتها .
( أروني ماذا خلقوا من الأرض ? ) . .
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا ، أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .
( أم لهم شرك في السماوات ? ) . .
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق ، والشعور بوحدانيته ؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق ، فيطالبها بالحجة والدليل ؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير :
( ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم ، إن كنتم صادقين ) . .
فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة ، أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات ، واسعة المدى ، قوية الإيقاع ، حاسمة الدليل .
وقوله تعالى : { قل أرأيتم } يحتمل { أرأيتم } وجهين : أحدهما أن تكون متعدية ، و { ما } مفعولة بها ، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى ، وتكون { ما } استفهاماً على معنى التوبيخ . و { تدعون } معناه : تعبدون . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «قل أرأيتكم من تدعون » . وقوله : { من الأرض } ، { من } ، للتبعيض ، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض .
ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك ، ثم استدعى منهم كتاباً منزلاً قبل القرآن يتضمن عبادة صنم .
وقوله : { أو أثارة } معناه : أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام . وقرأ جمهور الناس : «أو أثارة » على المصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء كأنها أثره .
وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه . وقال مجاهد : المعنى هل من أحد يأثر علماً في ذلك . وقال القرظي : هو الإسناد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : [ السريع ]
إن الذي فيه تماريتما . . . بَيِّنٌ للسامع والآثِر{[10290]}
آثراً أي للسند عن غيره ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفنا بها ذاكراً ولا آثراً . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : المعنى وخاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده ، وقال عبد الله بن العباس : المراد ب «الأثارة » : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر ، وهذا من البقية والأثر ، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال : «كان نبي من الأنبياء يخطه ، فمن وافق خطه فذاك »{[10291]} وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه ، وهكذا تأوله كثير من العلماء . وقالت فرقة : بل معناه الإنكار ، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب ، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك ، ثم قال : فمن وافق خطه على جهة الإبعاد ، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك ، وهذا كما يسألك أحد فيقول : أيطير الإنسان ؟ فتقول : إنما يطير الطائر ، فمن كان له من الناس جناحان طار ، أي أن ذلك لا يكون .
والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وتستعمل في غير ذلك ، ومنه قول الراعي : [ الوافر ]
وذات أثارة أكلت عليه . . . نباتاً في أكمتها ففارا{[10292]}
يريد : الأثارة من الشحم ، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري : «أو أَثَرَة » بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش ، وهي واحدة جمعها : أثر كقترة وقتر{[10293]} . وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ : «أو ميراث من علم » . وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم الحجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم . وقرأت فرقة : «أُثْرة » بضم الهمزة وسكون الثاء ، وهذه كلها بمعنى : هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به{[10294]} .
انتقل إلى الاستدلال على بطلان نفي صفة الإلهية عن أصنامهم . فجملة { قل أرأيتم ما تدعون } أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم .
وجَاء هذا الاستدلالُ بأسلوب المناظرة فجُعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم بالاحتجاج ليكون إلجاءً لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته ، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله : { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أيتوني بكتاب } الآية . و { أرأيتم } استفهام تقريري فهو كناية عن معنى : أخبروني ، وقد تقدم في سورة الأنعام ( 40 ) قوله : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون } .
وقوله : { أروني } تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله : { أرأيتم ما تدعون } وموقع جملة { أروني } في موقع المفعول الثاني لفعل { أرأيتم } .
والأمر في { أروني ماذا خلقوا من الأرض } مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئاً فلا تستطيعوا أن تُروني شيئاً خلقوه في الأرض ، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة ، وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه . و { ماذا } بمعنى ما الذي خلقوه ، ف ( ما ) استفهامية ، و ( ذا ) بمعنى الذي . وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول . وأصل التركيب : ماذا الذي خلقوا ، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالباً في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى : { من ذَا الذي يشفع عنده } [ البقرة : 255 ] . ولهذا قال النحاة : إن ( ذا ) بعد ( ما ) أو ( مَن ) الاستفهاميتين بمنزلة ( مَا ) الموصولة .
والاستفهامُ في { ماذا خلقوا } إنكاري . وجملة { ماذا خلقوا } بدل من جملة { أروني } وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود { ما } الاستفهامية بعده ، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقاً لهم بطل أن يكونوا آلهة لِخروج المخلوقات عن خَلقهم ، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى : { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسَهم ينصرون } في سورة الأعراف ( 191 ، 192 ) .
و{ أم } حرف إضراب انتقالي . والاستفهام المقدر بعد { أم } المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات . وإنما أوثر انتفاء الشِركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها ، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفاً للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه .
وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر ( 40 ) { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله } الآية فانظر ذلك .
ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله : ائتوني بكتاب من قبل هذا } فجملة { ائتوني بكتاب } في موقع مفعول ثان لفعل { أرأيتم } ، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ . ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام كما تقدم . والمعنى : نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات ، ولا بأقوال الكتب ، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر ( 40 ) { أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه } والمراد ب ( كتاب ) أيُّ كتاب من الكتب المقروءة . وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذِكراً غير الإبطال والتحذير من عبادتها ، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين : إمّا إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية ، وإمّا عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده : أو { أثارة من علم } .
والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } في سورة البقرة ( 23 ) .
والإشارة في قوله : { من قبل هذا } إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يُقرأ عليهم معاودة . ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يُصنع لهم ، كمَا قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنفال : 31 ] .
و { أثارة } بفتح الهمزة : البقية من الشيء . والمعنى : أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب . وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم . وفي قوله : { إن كنتم صادقين } إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور ، وقد قال تعالى في سورة القصص ( 50 ) { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: أرأيتم أيها القوم الآلهة والأوثان التي تعبدون من دون الله، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض، فإن ربي خلق الأرض كلها، فدعوتموها من أجل خلقها ما خلقت من ذلك آلهة وأربابا، فيكون لكم بذلك في عبادتكم إياها حجة، فإن من حجتي على عبادتي إلهي، وإفرادي له الألوهة، أنه خلق الأرض فابتدعها من غير أصل.
وقوله:"أمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَوَاتِ" يقول تعالى ذكره: أم لآلهتكم التي تعبدونها أيها الناس شرك مع الله في السموات السبع، فيكون لكم أيضا بذلك حجة في عبادتكموها، فإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي، أنه لا شريك له في خلقها، وأنه المنفرد بخلقها دون كلّ ما سواه.
وقوله: "ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبَلِ هَذَا "يقول تعالى ذكره: بكتاب جاء من عند الله من قبل هذا القرآن الذي أُنزل عليّ، بأن ما تعبدون من الآلهة والأوثان خلقوا من الأرض شيئا، أو أن لهم مع الله شركا في السموات، فيكون ذلك حجة لكم على عبادتكم إياها، لأنها إذا صحّ لها ذلك صحت لها الشركة في النّعم التي أنتم فيها، ووجب لها عليكم الشكر، واستحقت منكم الخدمة، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا الله.
وقوله: "أوْ أثارةٍ مِنْ عِلْمٍ"... بمعنى: أو ائتوني ببقية من علم...
واختلف أهل التأويل في تأويلها؛ فقال بعضهم: معناه: أو ائتوني بعلم بأن آلهتكم خَلَقت من الأرض شيئا، وأن لها شركا في السموات من قبل الخطّ الذي تخطونه في الأرض، فإنكم معشر العرب أهل عيافة وزجر وكهانة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو خاصة من علم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو علم تُثيرونه فتستخرجونه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو تأثرون ذلك علما عن أحد ممن قبلكم؟.. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو ببينة من الأمر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ببقية من علم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأثارة: البقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب... وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كُتب الأوّلين، ومن خاصة علم كانوا أوثروا به. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر بأنه تأوّله أنه بمعنى الخط، سنذكره إن شاء الله تعالى، فتأويل الكلام إذن: ائتوني أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب، بتحقيق ما سألتكم تحقيقه من الحجة على دعواكم ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية من علم يوصل بها إلى علم صحة ما تقولون من ذلك "إنْ كُنْتُمْ صادِقِين" في دعواكم لها ما تدّعون، فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تُغنِ عن المدّعي شيئا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون ما ذكر كله موصولا بعضه ببعض، ويحتمل أن يكون بعضه مفصولا عن بعض. فإن كان على الوصل فكأنه يقول: أرأيتم ما تعبدون من الأصنام، وتدعونها آلهة، هل خلقوا مما خلق الله لكم من المنافع ومما به حياتكم وقِوامُكم ومعاشكم مما تُخرج الأرض؟ أو هل يُنزِلون لكم من المنافع التي جعلها لكم في السماء من الأمطار وغيرها؟ أو هل أتاكم كتاب من عند الله، فيه أنه أمركُم بعبادة من تعبدونه؟
وقوله تعالى: {أو أثارة من علم} هو يخرّج على وجهين:
أحدهما: أو جاءكم من الحكماء الأولين المتقدّمين كتاب أو قول فيه الأمر بذلك؟ والثاني: أو استخرجتم من العلوم ذلك، فقلتم به؟ يقول، والله أعلم: إن الأسباب التي تحمل الناس على العبادة والخدمة لهم في هذه الوجوه: إما منافع تتصل بهم منهم مما به قوامهم ومعاشهم وحياتهم، وإما كتاب من الله تعالى، فيه حجة لهم وأمر لهم بذلك، وإما كتاب من الحكماء والرسل يأمرونهم فيه وهم قوم لا يؤمنون بالرسل ولا بالكتاب، وليست لهم علوم مُستخرَجة من العلوم. يقول: ليس لكم مما ذكر من الأسباب والعلوم بما عبدتموها، فكيف اخترتم عبادتها على عبادة من عرفتم أن ما به قوامُكم وحياتكم منه، والله أعلم. وإن كان بعضه مفصولا من بعض فيكون كأنه يقول: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} من المنافع وغيرها {أم لهم شرك} في ما ذكر. فإن قالوا: قد خلقوا ما ذكر، ولهم شرك في ما ذكر، فقل لهم: {ائتوني بكتاب من قبل هذا} من كتب الحكماء أو العلوم المستخرجة من العلوم {إن كنتم صادقين} أنهم خلقوا ما ذكرتم، أو لهم شرك في ما ذكر، والله أعلم. وقد علموا أنهم لا يقدرون أن يُرُوهُ ما ذكر لما لم يكن لهم من هذه الأسباب شيء؛ إذ هي أسباب العلم، وقد عجِزوا عن ذلك كلّه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أروني.. أي أثر فيهم في الملك، أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حُجَّةٌ فأَظْهِرُوها، أو دلالة فَبَيِّنوها.. وإذا قد عَجَزْتُم عن ذلك فهلاَّ رجعتم عن غيْكم وأقلعتم؟
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ومعناه: أنه ليس لهم شرك، لا في خلق الأرض، ولا في خلق السماء أي: نصيب، فكيف تعبد مع الله؟...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا من الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ.
ثُمَّ قَالَ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ من قَبْلِ هَذَا} عَلَى مَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ...ثُمَّ قَالَ: {أَوْ أَثَارَةٍ من عِلْمٍ} يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ...
{قل أرأيتم ما تدعون من دون الله} وهي الأصنام {أروني} أي أخبروني {ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات} والمراد أن هذه الأصنام، هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم؟ فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم، ولما كان صريح العقل حاكما بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا العالم إليها...
فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه، والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم، وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه...
{ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم} وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة، فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان، إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء، وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل، أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهو معلوم البطلان، وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه، فهو أيضا باطل...
ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى: {أو أثارة من علم}...
{أثارة} ما يؤثر من علم أي بقية...
{أثارة} تؤثر {من علم} كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان، ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قُلْ} أي: لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره: {أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} أي: أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} أي: ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض، وما يملكون من قطمير، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله، عز وجل، فكيف تعبدون معه غيره، وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي: هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأمركم بعبادة هذه الأصنام، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي: دليل بَيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي لهؤلاء المعرضين أنفسهم لغاية الخطر منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً: {أرءيتم} أي أخبروني بعد تأمل ورؤية باطنة {ما تدعون} أي دعاء عبادة، ونبه على سفولهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء دونه، فلا كفوء له...
{أروني ما} وأكد الكلام بقوله سبحانه وتعالى: {ماذا خلقوا} أي اخترعوه {من الأرض} ليصح ادعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء. ولما كان معنى الكلام وترجمته: أروني أهم شركاء في الأرض؟ عادله بقوله: {أم لهم} أي الذين تدعونهم {شرك في السماوات} أي نوع من أنواع الشركة: تدبير -كما يقول أهل الطبائع، أو خلق أو غيره، أروني ذلك الذي خلقوه منها ليصح ادعاؤكم فيهم واعتمادكم عليهم بسببه... {ائتوني} أي- حجة على دعواكم في هذه الأصنام أنها خلقت شيئاً، أو أنها تستحق أن تعبد {بكتاب} أي واحد يصح التمسك به، لا أكلفكم إلى الإتيان بأكثر من كتاب واحد...
{من قبل هذا} أي- الذي نزل عليّ كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوة فإنها كلها شاهدة بالوحدانية، لو أتى بها آت لشهدت عليه ...
... {من علم} أي قطعي بضرورة أو تجربة أو مشاهدة أو غيره ولو ظناً يدل على ما ادعيتم فيهم من الشركة. ولما كان لهم من النفرة من الكذب واستشناعه- واستبشاعه واستفظاظه ما ليس لأمة من الأمم، أشار إلى تقريعهم بالكذب إن لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله تعالى: {إن كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {صادقين} أي عريقين في الصدق على ما تدعون لأنفسكم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: إن الدليل: إما وحي من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما إرشاد من العقل، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني فأين هو؟...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فعلم أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ولا دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة. يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أروني ماذا خلقوا من الأرض؟).. ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات -سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها- قد خلقت من الأرض شيئا، أو خلقت في الأرض شيئا...
(أم لهم شرك في السماوات؟).. ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها. ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق، والشعور بوحدانيته؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات.. والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فجملة {قل أرأيتم ما تدعون} أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم. وجَاء هذا الاستدلالُ بأسلوب المناظرة فجُعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم بالاحتجاج ليكون إلجاءً لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز... والمعنى: نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات، ولا بأقوال الكتب... و {أثارة} بفتح الهمزة: البقية من الشيء. والمعنى: أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب. وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم. وفي قوله: {إن كنتم صادقين} إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور،...
الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يثبت أن الذين اتخذوا من دون الله أولياء اتخذوهم بلا سابقة كمال أو سابقة نفْع، فاتخذوا الأصنام آلهةً يعبدونها من دون الله وهم صانعوها بأيديهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع الله العزيز الحكيم، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأنّ من له أهلية الأُلوهية هو خالق العالم ومدبره،... والتعبير ب (أثارة من علم) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين. وقد ذكر علماء اللغة والمفسّرون عدةّ معان لكلمة «أثارة» على وزن حلاوة فمنها: بقية الشيء، الرواية، العلامة. لكنّ الظاهر أنّها تعود إلى معنى واحد، وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده...