ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم للأعمال الصالحات التي أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } إلى آخر السورة الكريمة .
العبودية لله نوعان : عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته ، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت ، فوصفهم بأنهم { يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } أي : ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده . { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ } أي : خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف ، { قَالُوا سَلَامًا } أي : خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله . وهذا مدح لهم ، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال .
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ) . .
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن : أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة ، ليس فيها تكلف ولا تصنع ، وليس فيها خيلاء ولا تنفج ، ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية ، وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة ، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها ، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة ، وفيها جد وقوة . وليس معنى : ( يمشون على الأرض هونا )أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس ، متداعي الأركان ، متهاوي البنيان ؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا مشى تكفأ تكفيا ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها ، قال أبو هريرة : ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة ، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك ، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما )لا عن ضعف ولكن عن ترفع ؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء ، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع .
و «العباد » والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه ، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب ، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عبد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وعبد الرحمن » ، ذكره الثعلبي ، وقوله { الذين يمشون على الأرض } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال ، { هوناً } ، بمعنى أمره كله هون أي لين ، قال مجاهد ، بالحلم والوقار ، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع ، وقال الحسن حلماً إن جهل عليهم لم يجهلوا ، وذهبت فرقة إلى أن { هوناً } مرتبط بقوله { يمشون على الأرض } أي المشي هو هون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي { هوناً } مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش { هوناً } رويداً وهو ذئيب أطلس .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية . وقوله صلى الله عليه وسلم «من مشى منكم في طمع فليمش رويداً » إنما أراد في عقد نفسه ولم يرد المشي وحده ، ألا ترى أن المبطلين المتحيلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر ذماً لهم [ أبي جعفر المنصور ] : [ مجزوء الرمل ]
كلهم يمشي رويدا . . . كلهم يطلب صيدا{[8872]}
وقال الزهري سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه .
قال القاضي أبو محمد : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط وقال زيد بن أسلم كنت أسأل عن تفسير قوله { الذين يمشون على الأرض هوناً } فما وجدت في ذلك شفاء ، فرأيت في النوم من جاءني فقال هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهذا تفسير في الخلق ، و { هوناً } معناه رفقاً وقصداً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أجب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما » الحديث{[8873]} وقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } . اختلف في تأويل ذلك ، فقالت فرقة ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاماً بهذا اللفظ أي سلمنا سلاماً وتسليماً ونحو هذا ، فيكون العامل فيه فعلاً من لفظه على طريقة النحويين ، والذي أقول إن { قالوا } هو العامل في { سلاماً } لأن المعنى { قالوا } هذا اللفظ ، وقال مجاهد معنى { سلاماً } قولاً سديداً ، أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين ف { قالوا } على هذا التأويل عامل في قوله { سلاماً } على طريقة النحويين وذلك أنه بمعنى قولاً ، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يختص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة ، وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه ، ورجح به أن المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفار والآية مكية فنسختها آية السيف .
قال الفقيه الإمام القاضي : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي كان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوماً بمحضر المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علياً في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول علي بن أبي طالب ، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها ، فكنت أقول له إنما تدّعي هذا الأمر بإمرة ونحن أحق به منك ، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه ، فقال المأمون وبماذا جاوبك قال : فكان يقول لي سلاماً سلاماً ، قال الراوي وكان إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت فنبه المأمون على الآية من حضره وقال هو والله يا عمي علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب فحزن إبراهيم واستحيا وكانت رؤياه لا محالة صحيحة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.